ذو الوجهين
عبد الكريم النّاعم
بعض النّاس لا يعيشون بوجه واحد، واضح، ثابت، بل هم يتلوّنون بحسب مقتضيات مصالحهم، وما يرون فيه نفعا لهم، وهذه ظاهرة بشريّة، إذ ليس ما يشير إلى وجودها في عالم الحيوان، أو أنّنا لا نعرفها فيه.
تُرى ماهي الدوافع النفسيّة عند هذا الصنف من العباد؟
من الثابت أنّ البعض تكوينه النفسي، والشخصي رخْو، لدرجة أنّه يسير في وجهة الجماعة التي يكون فيها، حتى وإن كان ذلك في الانتقال بين مجموعتين، في يوم واحد، فهو مع الذين يجالسهم، وذلك خلل في البنية النفسيّة السليمة، ويكفيه أن ينظر إليه ممَن يجالسهم بعين الرضى، أو القبول، وثمّة من يَغلب على ميوله للوصول إلى موقع ما، أو طلبا لكسب، أو جاه، وهو، فيما يبدو للآخرين، من المتماسكين كبنية شخصيّة، وقد يكون فيه من صفات (الفهلوة)، و(الحَرْبقة) ما يساعده على النّفوذ والتسلّل، وأمثال هذا يشكّلون بؤرة خطيرة على المجتمع، لأنّ لديهم القدرة على بلوغ مآربهم، بوسائل غير شريفة، وهذا ما يقطع الطريق على الشرفاء الأخلاقيّين، الأسوياء.
تساءلتُ بيني وبين نفسي، تُرى كيف يستطيع هؤلاء النّوم الهانئ الهادئ؟! ألا يتفقّدون ذواتهم، وتصرّفاتهم،؟! فكيف لا يقلقهم أنّهم على هذه الصورة، فهم إن استطاعوا خداع الناس كيف يستطيعون خداع النفس؟! وأقرب جواب خطر ببالي أنّ المطامع، مهما كانت دوافعها، هي أغلى بكثير من أيّة قيمة خلُقيّة عندهم، وبذلك فهم منصاعون للمطمع، ولا قيمة لأيّ شيء آخر عندهم، الغاية تبرّر جميع الوسائل الموصِلة. وأمثال هؤلاء لا يخلو منهم مجتمع، ولكنّهم ينتشرون انتشارا مخيفا في المجتمعات المتخلّفة، أمّا المجتمعات المتقدّمة من حيث بُناها الاجتماعية، والتربويّة، فإنّ صرامة تطبيق القانون تُحاصر الكثيرين منهم، أمّا المجتمعات الطّامحة للنموّ فما تزال في طور محاولة تكوين الذات، ولذا تكثر فيها الخروق، والفجوات التي تسهّل المرور.
هذه الظاهرة لا تغيب حتى في المجتمعات التي وضعتْ أسسها لبناء مجتمع جديد على حساب إزاحة مجتمع قديم، ففي بداية انتشار الدين الإسلامي في مجتمعي مكّة والمدينة، ورسول الله (ص) حاضر بكلّ ماله من عمق، وبهاء، ومع هذا، فقد حدّثنا القرآن الكريم عن هذه الظاهرة، فجاء في سورة البقرة -14-“وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا معكم، وإذا خلَوا إلى شياطينِهم قالوا إنّا معكم، إنّما نحن مُسْتَهزِئون”، وقد استوعبت السياسة النبويّة هذه الظاهرة لتلجمها بحكمة وعقل، فهو (ص) كان يعلم أنّ حوله منافقين، ولم يبُح بأسمائهم إلاّ للصحابي حذيفة بن اليمان، بحسب المرويّات، وحافظ حذيفة على ذلك السرّ، إتباعا للحكمة النبويّة، لأنّ وحدة الصفّ كانت آنذاك، شرطا في الوصول إلى المراحل المطلوبة.
عرفت شاعرا من أبناء عصرنا، وكان في موقع (يغبطه)، أو (يحسده) عليه الكثيرون، ولم يكن ينقصه شيء من مظاهر الحضور، هذا الشاعر جمعتنا سهرة في مكان دُعينا إليه، ولا أدري كيف تطوّرت السّهرة فألقى قصيدة، وكانت عيناه تتفقّدان بعض الحضور بذكاء، وحذر، ظنّ هو أنّهما لا يلحظهما أحد، وحين وصل إلى مقطع في القصيدة فيه مديح لصاحب مقام عالٍ، في ذلك الوقت، لاصتْ عيناه، وتوهّم أنّه مرّر غمزة خاطفة من إحدى عينيه، يتقرّب بها ممّن كان يعتقد أنّ ذلك يُرضيهم، فشاركوه طيف ابتسامة، فغضضتُ بصري خجلا من هذا النّفاق، والرّياء، وتمنّيت لو أنّي لم ألحظ ذلك، فقد كانت السّقطة مُخجلة، عند من يشعر بقيمة الأخلاق، والصدق.
إنّ مكافحة هذه الظاهرة، الآفة، لا يكون بالكلام وحده، بل لابدّ من سدّ الذرائع التي تجعل هذه الرخويّات الأخلاقية تكرّس حضورها، والتي لن يكون فعلها أكثر نظافة ممّا في باطنها، فسيادة القانون، وتكافؤ الفرص، والتشدّد في تطبيق العدالة الاجتماعية، والديمقراطية الحقّة، لا مجرّد “الإجراء” الديمقراطي، قد تكون من الوسائل النّاجعة، وأختم بالحديث النّبوي: “ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها”.
aaalnaem@gmail.com