الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فينيق حمص

 

عبد الكريم النّاعم

دعوة كريمة وصلتني لحضور “مهرجان الثقافة الموسيقيّة” التاسع عشر في حمص، والذي يقيمه فرع نقابة الفنّانين بحمص، ومديريّة ثقافتها، والذي يمتد من 29/10/ ولغاية 6/11/2019، على مسرح دار الثقافة، بيد أنّ الشيخوخة، ومشاكلها المرتبطة بعدد من الأمراض، بعضها قديم، وبعضها مُحدَث، قد منعتني من حضور هذه الأيام الغالية على القلب، وقد كنت في المهرجانات القديمة عضوا من أعضاء التهيئة لها، ومتابعتها، وتقييمها..
أحد أصدقائي ممّن أزيده في العمر أكثر من عشر سنوات، اتّصل بي، وكان من جملة ما ذكرناه الشيخوخة وما يرافقها، فقال لي: “إنّ زوربا يقول الموت لا شيء، ولكنّ الشيخوخة عار”، فتوقّفتُ قليلا، والآن، أقول له: “لا، يا صديقي، الشيخوخة ليست عاراً، ولا المرض عاراً، بل هما من مجريات الحياة، فالشيخوخة مرحلة من مراحل العمر، وفيها لمَن ينظر إليها بعين البصيرة ما لا يمكن أن نراه في غيرها، الشيخوخة مظهر من مظاهر الحياة، والفلاسفة المسلمون المتألّهون والصوفيّون يقولون: “الحكيم لا يفعل عبثا”، ويعنون بالحكيم الله، جلّ الخالق.
الدّعوة وصلتْني في مغلّف مكتوب بيد الخطاط والفنّان سليم عماري، وكم في خط اليد من روح مُفتقَدَة في خطّ الكمبيوتر.
الفرق المُشاركة عددها تسع، ثمانية منها من حمص، والتاسعة هي “الفرقة السيمفونية الوطنيّة السوريّة “بقيادة ميساك باغبودريان، ولم تعرف حمص زيارة هذه الفرقة إلاّ مرة واحدة أيام طيّب الذّكر صلحي الوادي.
الفرق الحمصيّة ثلاث منها قديمة، وخمس جديدة، وسيُكرّم عدد من فناني المدينة المعروفين. اللاّفت أنّ الغالب على المواد التي اختارتها تلك الفرق أنّها تحافظ على الطرب العربيّ الأصيل الذي نكاد نفتقده في أزمنة الهزّ، والطرب بالأقدام، وتلك سمة نعرفها في أندية وفرق حمص منذ أن بدأ المهرجان الأوّل للثقافة الموسيقيّة، اللاّفت أيضا أنّ الجيل الجديد، وهو الغالب على المطربين والعازفين أنّهم حافظوا على ذلك النّهج بالأخذ بقواعد الطرب الأصيل، وهذا أحد مؤشّرات استلام الرّاية من الأجيال الطّالعة.
قرأت تلك الأسماء، وأسماء العازفين، فتوقّفت عند ظاهرة أنّ هذا المهرجان هو استمرار للمهرجانات السابقة، رغم الانقطاع طوال سنوات الخراب العربي الذي اندلعت ناره على أيدي الدّواعش والنّواهش، ودقّاقي الطناجر، والتي كانت وراءها كلّها جماعة الخوّان المسلمين، بما تلقّته من أموال، كانت كافية لإسقاط دولة عظمى، باعتراف مموّليها، ولكنّ الوطنيّة السوريّة، وعلى رأسها قواتنا المسلّحة الباسلة، أسقطت ذلك المشروع.
مدينة حمص كان الرّهان عليها مرفوعاً إلى درجاته القصوى، فانكسر المشروع، وتثلّم حدّه في هذه المدينة التي كانت المراهنة عليها مصيريّة.
لاشكّ أنّ دماء شهدائنا كانت الجسر الذي أعاد مثل هذا المهرجان، وما شابهه من نشاطات، قرأت نشرة على صفحات التواصل الاجتماعي تذكر عدد الشهداء من كلّ محافظة، فكان العدد الأعلى من أهالي حمص، سبعة وتسعون ألف شهيد، وأرجّح أن يكون العدد أكبر من ذلك، هذا إنْ صحّت تلك المعلومة.
إنّ فينيق حمص يقوم من رماده، ومن خرائبه، متشبّثا بالحياة، الحياة تعود إلى أسواقها القديمة بحسب ما أتابع في الصحف، أمّا الأسواق الأخرى فقد تعافت منذ زمن، هذا الفينيق ليس وقفا على هذه المدينة، ومَن أراد التعرّف أن ينظر إلى فينيق حلب، التي دُفعت المليارات من أجل تدمير تراثها في أسواقها القديمة الشهيرة، فكان أن انهزم المُراهنون، وأجراؤهم، وها هي أسواقها تعود أبهى ممّا كانت.
هذا الفينيق لن يكتمل حضوره إلاّ بتحرير آخر ذرّة من تراب سوريّة المقدّس، والذي قدّسته دماء الشهداء، وكما اندحرت غزوات، وهجمات حاقدة عبر التاريخ فوق هذه الأرض، سيندحر كلّ الغزاة، ولن يُترك فيها ولو شبر واحد رهن الاحتلال، وسيعرف الغزاة، وأزلامهم، ومرتزقتهم، معنى الهزيمة الذي هو أمرّ من العلقم، وسيصبح المراهنون على قوى خارجيّة أحاديث الأجيال القادمة.

aaalnaem@gmail.com