سورية تكشف فشل السياسة الفرنسية
هيفاء علي
منذ بداية الحرب الكونية على سورية كانت مواقف ميشيل ريمبو، السفير الفرنسي المحنك السابق والمستشرق والدبلوماسي المخضرم، ضد سياسة بلاده العسكرية، وخاصة تلك التي تعيد إحياء تاريخ الاستعمار القديم، ولهذا الغرض نشر مؤلفات عدة حول الشرق الأوسط وسورية، آخرها كتاب “حروب سورية” الصادر حديثاً، وكتاب “عاصفة على الشرق الأوسط الكبير” الذي صدر عام 2015.
ومؤخراً تطرق الكاتب في مقال تحليلي إلى أخطاء السياسة الخارجية الفرنسية تجاه سورية، والثمن الباهظ الذي ستدفعه فرنسا لاحقاً. ويرى ريمبو في هذا المقال أن الدبلوماسية الفرنسية أوغلت في الخطأ حين أنكرت شرعية قيادة الدولة السورية، وبقيت متمسّكة بالمعسكر الغربي، الأمر الذي أفقدها أي تأثير أو ثقل في اللعبة الدبلوماسية على أرض الواقع.
حتى البيان الصادر عن الرئاسة الفرنسية بخصوص العدوان التركي لم يسلم من انتقاد الدبلوماسي ريمبو، كون البيان الرئاسي الفرنسي لم يرد فيه أي شيء تجاه سورية، ما يعني أن فرنسا لم تغيّر موقفها من الإرهابيين. لذلك كان الأجدى بالرئاسة الفرنسية أن تعمل بأساسيات ميثاق الأمم المتحدة ووفقاً لمعايير القانون الدولي، والقول بأن الهجوم التركي هو عدوان سافر على سورية. وربما يكون من الغرابة أن يتساءل المرء عن دبلوماسية العضو الدائم في مجلس الأمن الذي أظهر على مدى تسعة أعوام احتقاره للقانون الدولي وعداءه تجاه دول سيادية لم تعتد على أحد أولاً في ليبيا ومن ثم في سورية اللتين صبّت عليهما كل نيران أحقادها.
بعد ذلك تطرق الكاتب إلى النزعة الغربية التي توحّد الحنين إلى الاستعمار القديم والانتقام من الإمبريالية، والتي بدأت تأخذ صعودها تحت لواء المحافظين الجدد، وتجمع بين الليبرالية الجديدة والبرلمانية. ولفت إلى جزء مهمّ في هذا الصراع، وهو إبراز مفاهيم الدعوة إلى السيطرة على العالم بعد أن تلاشت منذ ثلاثين عاماً، إذ يؤكد الكاتب أن تلك المحظورات عادت للظهور من جديد لتساعد على إعادة رسم الإطار الجغرافي لنبضات الهيمنة الأمريكية وأتباعها: الإمبراطورية الأطلسية ضد الكتلة الأوراسية، بحزام الأخضر للعالم الإسلامي- العربي وتحدي المواجهة.
ومن ثم يذكّر الكاتب بالوقت الذي ظهرت فيه أحادية القطب الأمريكية التي بدأت فعلياً عام 1990/1991 وبدت مواتية لتفاقم هذه الظاهرة المركزية التي أُعيد النظر فيها، مبررة سحق الشعوب وتدمير الدول باسم مبادئ خادعة مثل حق وواجب التدخل بدواعٍ إنسانية ومسؤولية الحماية، وإصدارات جديدة من “المهمة الحضارية” المتأخرة، وظل العمل بها بتركيز عالٍ حتى نجح المحافظون الجدد في تعبئة أطروحاتهم السياسية والإعلامية والفكرية لبلدان الغرب. حتى الخبراء أنفسهم، الذين كانوا يفخرون بتركهم الأفكار التبسيطية جانباً، يراهم الكاتب أنهم عادوا إلى الأفكار المتعلقة بالفكر الوحيد، حتى لا تفوتهم رياح التاريخ العظيمة.
ولعلّ الحرب على سورية كانت إحدى نتائج هذا التفكير، فقد شكّلت التقديرات المزيفة الوقود الأساسي للتحليل والتفكير في الحرب على سورية في مجالات التفكير الغربي، حيث تمّ استخدام المعلومات بشكل منهجي واستبدالها بسرد القصص التي تقول ما تريد، تمّ إطلاق كل حلقة من هذه القصص في السوق وتسليمها للرأي العام، ليس بهدف تزويد القارئ الغربي بالمعلومات والأخبار الحقيقية، وإنما بغرض تضليله وإيصال المعلومات الكاذبة والمفبركة له.
ضمن مناخ الاحتيال الفكري هذا، وفي ظل عدم وجود أي معارضة حقيقية له على مدى عشرين عاماً، ضلّلت أمريكا وحلفاؤها بشكل منهجي القانون الدولي ودمّرته، وعملت على تحويل مجلس الأمن إلى مسرح الغطرسة وجعل قانون الغاب يسود في كل مكان. وكانت سورية ضحية لهذا المنطق الذي تجاهل وضرب بعرض الحائط مبادئ الأمم المتحدة التي تؤكد على سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والالتزام بالتفاوض في حالة النزاع، وحظر اللجوء أو التهديد باستخدام القوة، وحق الشعوب في تقرير المصير، وحق الدول في اختيار نظامها السياسي دون أي تدخل. وفي الحرب على سورية، تمّ التخلي عن اللغة والعادات الدبلوماسية لصالح السلوك المنحرف الذي كان في يوم من الأيام حكراً على الخارجين عن القانون، فيما تمّ تحديد ووصم الدول المقلقة والدول المارقة وفق مصالح وأهواء ذلك الغرب.
ويعود الكاتب ليؤكد أن بلدان الشرق المعقد عانت من هذا الانجراف الخطير، بينما ضحّى الأطلسيون بالأفكار التبسيطية، وأقوالهم وتحيّزهم. وفرنسا أكبر مثال على ذلك، فهي انضمت إلى مجلس الأمن في عام 1945 كعضو دائم ، ورأت منذ فترة طويلة في التعددية والالتزام بأركان الأمم المتحدة الشرعية لشرعيتها، ولكن عودتها إلى “المهد الغربي” أدت إلى تحول أعمى بشكل متزايد مع المواقف الأنغلو-ساكسونية، وخاصة منذ حرب العراق الثانية.
يرى الكاتب أن الأزمة السورية كشفت تخبّط فرنسا، وأن سياستها الفاشلة تجاه القيادة السورية أدت إلى استبعادها من الملف السوري وقضايا أخرى في المنطقة، ورغم تجاهل فرنسا للقيادة السورية إلا أن الأخيرة على وشك استعادة السيطرة على كامل الأراضي الوطنية، ولا تفوت فرصة للتنديد بالعدوان والوجود غير القانوني لقوات “النظام” الفرنسي، وقوات “نظام أردوغان”.. وغيرهم.
من الواضح أن غطرسة حكومة ماكرون دفعته إلى التقليل من أهمية سورية، ومراعاة ما يُسمّى “الانفصاليين، وما يسمى الجيش الحر، وقوات المعارضة السورية” المناهضة للقيادة السورية. والمثير للدهشة أن الطبقة السياسية الفرنسية والغربية، وجميع الأحزاب الحكومية مجتمعة، ووسائل الإعلام الوطنية الرئيسية، وكتلة المثقفين قد دعمت الحكومات الفرنسية في هذا الموقف العدائي المشين الذي سيبقى وصمة عار في تاريخ فرنسا، ولا يبدو أن اليوم الذي يمكن فيه إصلاح هذا الخطأ الهائل قريب، ذلك أن معظم الفرنسيين سيكون لديهم ذاكرة ضعيفة وسوف ينسون مع مرور الوقت هذه الحلقات المحزنة.