بوابات حالمة.. بس برد
سلوى عباس
المسرح فن مفتوح على المدى، هذا المسرح الذي يستعيد ألقه من خلال أشخاص يقدّمون أرواحهم، وكل ما يملكون لإعادته إلى دوره الفاعل في الحركة الفنية والإنسانية، وهذا ما أثبتته العروض التي قُدّمت خلال سنوات الحرب التي يعيشها وطننا، من خلال جهود أشخاص حملوا عبء الرسالة المسرحية التي أدركوا أهمية دورها في الأزمات والحروب، وهذا ما لمسناه في أعمال المخرج مأمون خطيب كلها سواء في: نبض- هدنة- زيتون- اعترافات زوجية، والآن في مسرحية “البوابات” التي قدمت على مسرح القباني والتي تباينت الآراء حولها بين من أعجب بها وبين من عبّر وبخجل عن عدم فهمه لما يريده من هذا العمل، وهناك من رأى أن فكرة التجريب، التي قام عليها العرض، تستدعي هذا الأسلوب في الطرح، وهذا الهاجس الذي يرافق المخرج خطيب في كل أعماله ويعمل عليه، دون أن يحصر نفسه في نمط إخراجي محدد بعيداً عن لذة المغامرة، لذا نراه مشغولاً دائماً بفكرة البحث عن التقنية التي سيقدّم فيها عرضه.
“البوابات تأليف نسرين فندي ومأمون خطيب ومن إخراجه، يتطرّق لتداعيات الحرب وانعكاساتها على الناس الذين يمثّلهم أبطال العرض، حيث توحي مشاهد العرض الأولى بأنهم في حالة تأهب للسفر ينتظرون أن يحين موعد رحلتهم وعبورهم من بوابة المطار، ولكن سرعان ما تكشف الأحداث عن حوارات تحمل الكثير من الصدامات والاعترافات والانكسارات والأحلام التي ترصدها لنا الرسامة “رشا الزغبي”، التي تبقى صامتة طوال العرض ترسم ملامح وجوه المسافرين الثلاثة الذين ابتكرتهم من خيالها، فالعمل يتحدّث عن الحالمين بالسفر عبر خيالهم الخاص، والخلاص من واقعهم المتردي، والصدوع التي يعانيها كل واحد منهم، خاصة وأن الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية بعامة ليست على “رتم” سهل ويسير دائماً، بل فيها شروخ ونتوءات وأخاديد كثيرة، ولو أن الأمر يختلف بالنسبة لبعض الناس، وبصورة عامة الفنانين (بما تشمل هذه التسمية من تنوّع في الفنون) صدوعاتهم الداخلية أغوارها بلا حدود على الصعد كافة، هذه الصدوع التي قد تشير إلى أن العالم كله آيل إلى خراب، لأن هذه اللحظة استثنائية، هي لحظة الصدع الداخلي أو الخارجي، الروحي، النفسي، الإبداعي وغيرها، وهي لحظة كاشفة تجلو الإبداع العادي الذي ينضج بالاجترار والتكرار إلى درجة يفقد معها صفة الإبداع، وبين الإبداع الحقيقي الذي يغامر في الحفر في الصدوعات.
العرض يسلّط الضوء على شرائح مجتمعية مثقفة مأزومة، وهذا ما يلمسه المشاهد عبر الحوارات التي تدور بين أبطال العرض الذين بدأ حديثهم عادياً، لنكتشف فيما بعد أنهم شخصيات مريضة يقيمون في مشفى للأمراض العقلية، فالمسافرة “نسرين فندي” تعاني من التحرّش، وتتهم أي رجل يقترب منها أنه يتحرّش بها، لكنها تبقى على قيد الأمل، وفي لحظة مكاشفة لذاتها تتمنى أن تلتقي الرجل الذي تستطيع أن تحبه، وتكمل حياتها معه، بينما يعبّر المسافر الثاني عازف الموسيقا “سليمان رزق” عن امتعاضه من كلام المسافرة التي تستفزه بكلامها وحركاتها، وهو يمثّل شريحة الشباب الموهوبين الذين لا يأخذون حقهم في بلدهم، ويمارسون إبداعاتهم في أماكن لا تليق بهم، فيبدأ بالحديث عن حلمه بالعزف في إيطاليا البلد الذي يقدّر الفن والموهبة، أما المسافر الثالث –جسّد الشخصية الفنان “إبراهيم عيسى”- فيعاني من مرض الضغط، ويبحث عن دوائه ضمن عبث الحالة التي يعيشها بسبب خلافات المسافِرَيْن الآخَرَين، فيحاول أن يكون وسيطاً بينهما بدعوته للمحبة والسلام، ونرى الثلاثة يتكلمون عن جمال البلاد التي سيسافرون إليها، لكنهم يرددون مع الرسامة لازمة “بس برد”، وهو برد الروح والغربة التي يعيشونها مع أنفسهم ومع واقعهم السيئ ووضعهم بشكل عام.
لقد أثبت عرض “البوابات”، بدءاً من النص وانتهاءً بالعرض متضمناً “التجريب بالسينوغرافيا والإضاءة والمكياج والفضاء المسرحي والأداء التمثيلي، أن المسرح بما يقدّمه من مقولات وما يناقشه من قضايا، وطرح أسئلة حول الوجود والإنسان، يبقى رهن شغف بعض محبّيه.