ما لا تفعلون
د. نضال الصالح
مِن المختلَف في نسبته إلى قائله، الأخطل أو المتوكل الليثي أو أبو الأسود الدؤلي وسواهم، بيتٌ من الشعر جرى مجرى المثل أو الحكمة عبر التاريخ، وصار شائعاً على الألسنة في الدلالة على قيمة إنسانية لا تكون في أحد إلا زانته، ولا تزول عن أحد إلا شانته، قيمة الفعل المطابق للقول، والبيت هو:
“لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله/عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ” الذي ورد في غير قليل من كتب اللغويين شاهداً نحوياً على واو المعية، أو العاطفة في رأي ابن هشام في “مغني اللبيب”، وسابق هذا البيت: “يا أيها الرجلُ المعلّمُ غيرَه/هلّا لنفسكَ كان ذا التعليمُ؟”، وتاليه: “وابدأ بنفسك، فانهها عن غيّها/ فإذا انتهت عنه فأنت حكيم”.
الفعلُ المطابق للقول، أو ما يُصطلح عليه في الدراسات الحديثة بالجدل بين النظرية والممارسة، ذلك هو ما يجب أن يكون، وإن لم يكن كان مقتاً حسب الآية الكريمة: “كبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”، والمقْتُ في “لسان العرب” منقولاً عن ابن سيده: أشدّ الإبغاض، والفاحشة، وسوء السبيل، ومنه في الجاهلية حسب المفسرين زواج الرجل بامرأة أبيه.
إنّ التضاد بين القول والفعل، وبين النظرية والممارسة، يعني، ممّا يعنيه، الفوات الحضاري في الدولة والمجتمع والشبهة في الفرد، فلا قيمة لقول غير متبوع بفعل، ولا شأن لأيّ نظرية لا رصيد لها في الواقع، فكيف إنْ كان الفعل نقيضاً للقول، وكانت الممارسة مفارقة للنظرية؟ كأن يصخب أحد بالحديث عن النزاهة وهو غائص حتى ذروة رأسه بالفساد، وكأن يخطب أحد عن الأمانة وهو لا يؤتمن على جناح بعوضة، وكأن يكتب أحد عن المثقف العضوي وهو لا شيء يثنيه عن اللهاث وراء مغنم صغير ومكسب أصغر هناك، ويكذب، وينهب، ويطعن، ويخون، حتى يصحّ فيه قول المتنبي عن ضبّة وأمّه الطرطبة، وكأن يصدّع أحد آذان الآخرين عن حضارة القول والفعل العابرين للاثنيات والديانات والطوائف وهو يكتفي من القول بالقول وحده، وكأن يحبّر أحد مئات الصفحات عن الوطن والوطنية وهو لا يعنيه من أمرهما في الحقيقة والواقع سوى ما يعنيه وحده.
القول، أيّ قول، منوط بترجمته إلى فعل، والنظرية، أيّ نظرية، منوطة بصيرورتها إلى ممارسة، وسوى ذلك محض زيف، وممّا يمكن نسبته إلى ما اصطلح الجرجاني عليه بالاستعارة غير المفيدة، أو فاحش الاستعارة، ومن ذلك ما روى الجاحظ من أنّ قوماً رأوا مع رجل خفّاً، فسألوه عنه، فقال: قلنسوة، فقال أحدهم: صدقت هو قلنسوة يليق برأس رجل مثلك.
من بديع ما قالت العرب في وصف الواعظ غيره العامل بنقيض وعظه: “أعمش كحّال”، ومن بديع ما جاء في “نهج البلاغة”، وكلّه بديع، قول الإمام عليّ كرّم الله وجهه: “مَن نصّب نفسه للناس إماماً، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه”.