بالعتاد الكامل!؟
د. نهلة عيسى
أنزل إلى عملي, أو أجلس أمام حاسوبي, أو أذهب إلى سريري.. لا فرق, مسلحة أنا دائماً بالعتاد الكامل: قفازات, وجوزين من الجرابات, وبنطالين على الأقل, وثلاث كنزات في الحد الأدنى, وجاكيت بلا أكمام فوق ذلك كله, يعلوه جاكيت بأكمام مبطن بالفرو, ويعلو الجميع شال صوفي وقبعة فرو روسية أهداني إياها الصديق الحبيب فراس معلا, ظناً منه أنني فيها سأتبختر, ولم يكن يدري أنني سأنام محتمية بها من شر برد مقشوش عن ثلج, لا يرحمه مازوت, ولا ترأف به كهرباء!!.
أنزل إلى عملي وشكلي أقرب للكرة, أو لرجل الثلج, ولكثرة ما أرتدي أُدخلُ نفسي خلف مقود سيارتي حشراً, وأتبادل الشتائم اليومية مع باقي السائقين بلا صوت, فلساني متجمد, وبالكاد أتنفس, أو أتحدث, وبصعوبة أوقع البريد, فيداي مثل الفروج المسلوخ, وغرفنا صقيع لأننا في الجامعات نخبئ طوعاً المازوت لأيام الامتحانات, ونتلوى على لهيب الشوق إلى زمن الليتر أبو سبع ليرات, يُمون في البيوت مثل المكدوس, ونطلق الزفرة تلو الآه, متحسرين كعجائز الفرح, يستذكرون المنايا في الأعراس, والنكات في المآتم!!.
مسلحة أنا بالعتاد الكامل, بما في ذلك السخرية, فأنا مثل الأطفال أتقن الضحك حتى في سرير هذا الزمان الدامي, لأنني أؤمن أن الجد المترافق مع العجز نوع من التقعر, أو بالبلدي “فذلكة”, أو محاولة لبناء غرفة في قلب الزلزال, ولا أظن أن هناك عاقل يمتطي شجرة اليقين في حرب تشابكت خيوط من أوقدها مع خيوط من ربح منها, بحيث بات من المستحيل فك الخيوط إلا عبر تمزيق الثوب, والثوب وطن, والرغيف صار رقماً, والدواء رقماً, وحليب الأطفال, والعكازات, والماء والهواء, كلها صارت أرقاماً بسعر الدولار, ولكني بقناعة الأطفال أتجاهل الأرقام, ولا أحفظ منها إلا الواحد, لأن الوطن رغماً عن أنف الدولار يجب أن يبقى واحداً.
مسلحة أنا بالعتاد الكامل, بما في ذلك التفاؤل, لكن بعيداً عن المثالية, وادعاء تنسيق الزهور, وصيد الفراشات من سماء الوطن, ونحن نخوض أسوأ الحلال عند الشعوب: معركة الغذاء والعلاج وحتى الوجود, ولذلك ربما يبدو تفاؤلي للبعض أحياناً مرارة, لأن فيه طعم الدم والدمع والبارود, وطعم الوجع, لأنهم الطريق الوحيد المتاح لدينا للوصول إلى السنديان, إلى النهار.
مسلحة أنا بالعتاد الكامل, وحروفي حقيقتي, لا أرفض شيئاً, ولا أفضل شيئاً, لأنني أتفهم حقيقة أننا في زمن ارتداد السلاح إلى الصدر, إذ ليس مسموحاً أن نخرج من الحرب ناجين, ولذلك لا طائل من نشر الجروح على حبل لتجف في الشمس, ولا طائل من التوهم أننا بتبادل الشتائم, والنكات السخيفة على المقاهي, ومواقع التواصل الاجتماعي, نؤمم الفرح, ونجبره على النزول إلى المقاهي, والمطاعم الشعبية, والشوارع الخلفية, وهوامش الفقر على تخوم المدن المتخمة بوهم الطمأنينة أن خلف الجبال العالية القريبة, يعيش الأمل منتظراً فقط أول حافلة ليركبها في طريقه إلينا, بينما العابرون فوق جروحنا يكملون مسيرهم إلى الأمام!!.
مسلحة أنا بالعتاد الكامل أتدحرج في أزقة المدينة, أتلصص عبر ثقوب زنازينها على لوحة الأفق, وعلى الشابات الصغيرات يحتملن البرد, ولا يحتملن المس بالأناقة, وأراقب ببهجة ردود الفعل على شكلي المدور, وأضحك لأن الجميع مثلي مدوراً, ولكني ربما من القلائل, الذين لا يصدرون ملحقاً لتفسير ما يفعلون ويرتدون ويقولون, ولا يمسكون مثل الدليل السياحي بيد من يقابلونهم ليدوروا بهم فوق حافة الجروح, التي باتت متاحف, ورغم عشقي لكل جميل أكره المتاحف, والتحنيط, والعودة بالزمن إلى القديم, وأؤمن أن اليوم كاميرا الغد, وغدنا سيبقى مثلنا مدوراً, ما لم نركب نحن الحافلة بالعتاد الكامل.