دراساتصحيفة البعث

أمام «البريكست».. المشكلة العويصة لشمال إيرلندا

ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد

من بين السيناريوهات الكارثية التي تخيّلها المعارضون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) هو في إعادة الروح إلى الصراع الذي مزّق إيرلندا الشمالية بين سنتي 1968 و1998. الحزب الوحدوي الديمقراطي المحافظ المتشدّد زاد في تعقيد مهمّة لندن في مفاوضاتها مع بروكسل. منذ بضعة أشهر، وضعت المفاوضات المرتبطة بالبريكست تحت الضوء فاعلاً غير معروف بالقدر الكافي: إنه الحزب الوحدوي الديمقراطي. نواب هذا الحزب العشرة في البرلمان (ويستمينستر)، والذين تحالفوا مع المحافظين من أجل تمكينهم من الأغلبية في مجلس العموم منذ الانتخابات العامة لسنة 2017، يقولون في الآن نفسه إنهم يدعمون خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، ويعارضون كل حلّ يكفل وضعية خصوصية لإيرلندا الشمالية. إنه موقف متعنّت قد يدفعون ثمنه خلال الاقتراع المقبل، كما أن هذا الموقف يبعث على الاعتقاد بأن التوترات التي كانت السبب في النزاع الإيرلندي الشمالي، والذي هدأ منذ توقيع اتفاقات الجمعة المقدسة سنة 1998 لم تختفِ بشكل كامل.

أي تنازل
خلال الإحصاء السكاني الأخير سنة 2011، كان السكان البروتستانت في إيرلندا الشمالية يعدون نحو 875 ألف شخص، أي ما يقارب نصف (48%) العدد الإجمالي للسكان. ومنذ ظهور أولى المطالب الانفصالية من أجل أن تكون الانشقاقات العقائدية محفزاً على اختيار المعسكر الحزبي، يمثّل البروتستانت بتشكيلين حزبيين هما الحزب الوحدوي الديمقراطي وحزب أولستير الوحدوي اللذان ينشدان الهدف نفسه: “الإبقاء على إيرلندا الشمالية صلب المملكة المتحدة”. في مواجهتهما، توجد أحزاب قومية منسوبة إلى السكان الكاثوليك ومساندة لإعادة توحيد إيرلندا، وهي بالخصوص حزب “شين فين” القريب تاريخياً من الجيش الجمهوري الإيرلندي، والحزب الاجتماعي الديمقراطي العمالي.
لقد هيمن حزب أولستير الوحدوي، الذي يعود تأسيسه إلى سنة 1905 على المنطقة. في الفترة ما بين إحداث البرلمان الإيرلندي الشمالي سنة 1921 (في أعقاب توقيع المعاهدة الإنكليزية الإيرلندية التي انبثقت عنها دولة إيرلندا الحرة)، وإلغاء هذا البرلمان سنة 1972 (عندما رجعت إيرلندا الشمالية لسلطة لندن المباشرة)، شهدت المنطقة حكومة وحدوية تواصلت نصف قرن دون انقطاع. ومع كل موعد انتخابي، ينجح حزب أولستير الوحدوي في استقطاب أغلبية أصوات السكان البروتستانت، حتى وإن أدى ذلك إلى تأجيج التوترات الدينية، وذلك لكي يظل الانشقاق الديني، أمراً ذا أولوية. كانت “جماعة الأورانج” وهي جمعية “ماسونية” ذات نفوذ قوي تمّ تأسيسها بهدف مجابهة انتشار “الباباوية”، تمدّ هذا الحزب بالقسط الأكبر من قيادييه. خلال الستينات، ظهرت انشقاقات في صفوف الحزب عندما طالبت حركة من أجل الحقوق المدنية بإصلاحات وبإنهاء الممارسات التمييزية ضد الأقلية الكاثوليكية. انقسم الحزب بين المعتدلين والراديكاليين. لقد أقرّ منتسبو الشق الأول، مدفوعين بلندن، بضرورة إصلاح المؤسسات الإيرلندية الشمالية، في حين أوصى أعضاء الشق الثاني بتوخي كل الصرامة في مواجهة المتظاهرين. تمّت ترجمة هذا الانقسام سنة 1971 من خلال تأسيس حزب منافس: إنه الحزب الوحدوي الديمقراطي. لقد ولد هذا الحزب بدفع من إيان بايسلاي وهو قس مشيخي (المشيخية البروتستانتية)، حيث ساهمت خطبه الملتهبة في اندلاع “الاضطرابات”، وحثّت السكان البروتستانت على الانتظام في شكل ميليشيا، هي “قوة أولستير المتطوعة”، وشنّ هجمات على الكاثوليك. لقد تميّز الحزب الوحدوي الديمقراطي برفضه تقديم أي تنازل للكاثوليك. وفي نزعة مزايدة تخطّت يمينية “حزب أولستير الوحدوي”، استغل هذا الحزب الطبيعة المتعددة والمتنوعة للسكان البروتستانت، ذلك لأن هؤلاء ينقسمون فعلياً بعد أن كانوا لفترة طويلة موحدين وراء جماعة الأورانج وحزب أولستير الوحدوي إلى مجموعتين ذات حساسيتين مختلفتين.
من ناحية، هناك أحفاد المستوطنين الاسكتلنديين الذي وصلوا في القرن السابع عشر. ينحدر هؤلاء الذين يعدّون في أغلبيتهم من أتباع المشيخية البروتستانتية، أساساً للطبقة العمالية أو من أوساط صغار المزارعين. بداية من العام 1971 واعتباراً لحساسيتهم تجاه خطابه السياسي- الديني الراديكالي- كان التوجه الغالب لديهم ينحو باتجاه مساندة الحزب الوحدوي الديمقراطي. من الناحية الأخرى، هناك أحفاد المستعمرين الإنكليز الأعضاء في الكنيسة الأنغليكانية الأقل مناهضة للكاثوليك من الكنائس المشيخية البروتستانتية. إنهم ينتمون في غالبيتهم إلى الطبقات الوسطى والمرفهة ويصوّتون لفائدة حزب أولستير الوحدوي الأكثر اعتدالاً من الحزب الوحدوي الديمقراطي. مع اعتماد نظام النسبية في الانتخابات المحلية بداية السبعينات، لم يعد الصراع دائراً بين التشكيلات الحزبية القومية والتشكيلات الوحدوية، كما في حقبة هيمنة “حزب أولستير الوحدوي”، وإنما بين المعتدلين والراديكاليين صلب كل معسكر.
بداية من العام 1998 وتوقيع اتفاق الجمعة المقدسة الذي وضع حداً للاضطرابات، خسر “حزب أولستير الوحدوي” موقعه كحزب مهيمن. كان الحزب الوحدوي الديمقراطي الحزب الوحيد الذي رفض توقيع هذا الاتفاق. في العام 2006، لم يقبل هذا الحزب التوقيع على هذا الاتفاق (يرمي هذا الاتفاق إلى إعادة إرساء السلطة التنفيذية الإيرلندية الشمالية، إثر إحياء المجلس المعطل إلى الآن، والتي وضعت في ذلك الوقت بفعل الصعوبات التي حفّت بتنفيذ اتفاق الجمعة المقدسة. يقبل حزب “الشين فين ” بالاعتراف بشرعية قوات الشرطة المحلية، كما يقبل الحزب الوحدوي الديمقراطي بتشكيل حكومة ائتلافية مع القوميين) إلا بعد أن حصل على تنازلات حول مسائل أمنية، مثل نزع سلاح “الجيش الجمهوري الإيرلندي”. سنة 1997، حصل حزب أولستير الوحدوي على 32،7٪ من الأصوات في الانتخابات العامة في إيرلندا الشمالية، مقابل 13،6٪ من الأصوات لفائدة الحزب الوحدوي الديمقراطي. منذ العام 2005، انقلب ميزان القوى إلى الضد (17،7٪ مقابل 33،7٪) وذلك بصورة واضحة جداً. سنة 2017، فاز حزب أولستير الوحدوي بـ 10،3٪ من الأصوات المصرح بها، مقابل 36٪ لفائدة الحزب الوحدوي الديمقراطي.

شركاء مربكون
لقد أجبرت هذه المرتبة الجديدة التي حازها كتشكيل مهيمن، الحزب الوحدوي الديمقراطي على إعادة النظر في إستراتيجية مؤسّسه. إلى غاية سنة 2003، كان الأمر يتعلق بتقسيم الرأي العام البروتستانتي بغية حيازة موقع على الساحة السياسية. انطلاقاً من ذلك الوقت سعى الحزب إلى تجميع قاعدة انتخابية أوسع، لقاء تحولات وتغييرات مؤلمة ونقاشات داخلية ساخنة عاصفة حول القضايا المجتمعية. غير أن بعض تموقعات الحزب حافظت على المرجعية الموسومة بطابع هوياتي، مثل معارضة الإجهاض (إلا في حالة وجود خطر يتهدّد حياة الأم). إضافة إلى ذلك، طعن الحزب في قرار مجلس العموم الذي ينصّ على تقنين الوقف الطوعي للحمل في مجمل الأراضي البريطانية. كانت البداية من تشرين الأول 2019 ولكنه لم ينجح في ذلك. غير أن التراجع الديمغرافي البطيء للسكان البروتستانت فرض على الأحزاب الوحدوية توخي إستراتيجية الانفتاح. يتعيّن عليها أن تقترح نسخة سياسية للوحدوية، بمنأى عن بعدها الديني. هكذا، قرّر حزب أولستير الوحدوي، سنة 2005، أن يقطع كل الروابط المؤسساتية التي تجمعه بجماعة الأورانج، في حين وجّه الحزب الوحدوي الديمقراطي اهتمامه لكل الناخبين البروتستانت، بمنأى عن أعضاء الكنيسة المشيخية البروتستانتية الحرة التي أسّسها بايسلاي. وفي كانون الأول 2015، انتخب الحزب على رأسه آرلان فوستر. على غرار الكثير من الأعضاء الجدد، كانت فوستر منتمية سابقاً لحزب أولستير الوحدوي، والذي التحقت بصفوفه عندما كانت تدرس في جامعة بلفاست، كما أنها أنغليكانية. تتمتّع هذه السيدة برصيد مهم مناهض للنزعة القومية: عندما كانت طفلة، تعرّض والدها لإصابة خطيرة في اعتداء نفّذه الجيش الجمهوري الإيرلندي، حتى أنها نجت شخصياً في آخر لحظة من تفجير استهدف حافلة مدرسية. يبرهن تعيينها على رأس الحزب إرادة الحزب الوحدوي الديمقراطي في إعطاء صورة خارجية أكثر عصرية، في وقت لا يضمّ الحزب في صفوف منخرطيه سوى 28% من النساء (مقابل 34% بالنسبة لحزب أولستير الوحدوي).
فوستر التي شغلت على التوالي وزارات البيئة (2007- 2008) والمؤسسات والتجارة (2008- 2015) والمالية (2015- 2016) في إيرلندا الشمالية، تتمتّع بمسار سياسي مكّنها من البرهنة على كفاءاتها، لتصبح سنة 2016 رئيسة للحكومة. لقد تورطت في فضيحة مرتبطة ببرنامج تحفيز جبائي للنهوض بالطاقات المتجددة أشرفت على إطلاقه، وهو برنامج استفاد منه أعضاء في حزبها وأشخاص قريبون منهم، مع إثقال كاهل دافع الضرائب الإيرلندي الشمالي بفاتورة قدرها 500 مليون جنيه استرليني (نحو 580 مليون يورو).
وقد حمل رفضها الاعتراف بأدنى مسؤولية، ورفضها الانسحاب خلال فترة التحقيق العمومي بنائب رئيس الحكومة، مارتن ماك غيناس (عضو حزب الشين فين)، على الاستقالة في كانون الثاني 2017. ووفقاً لمقتضيات اتفاقات السلام، تمّ تجميد المؤسسات الإيرلندية الشمالية. وبعد ثلاث سنوات، لم يتمّ بعد التوصل إلى اتفاق بين الحزب الوحدوي الديمقراطي وحزب الشين فين، ولم تطأ أرجل النواب أرضية البرلمان الإيرلندي “ستورمنت” لأكثر من ألف يوم.
وإذا كان القبول، بتقاسم السلطة سنة 2006 قد دشّن منعرجاً في تاريخ الحزب الوحدوي الديمقراطي، فإن كل أعضائه لم يكونوا مساندين لهذا الخيار. لقد انتهجت فوستر، التي برزت مؤخراً على الساحة، والتي لا تتمتّع بالرصيد السياسي نفسه الذي يملكه سابقوها، مسلكية هجومية إزاء القوميين بهدف رص الصفوف حولها، وذلك في مخاطرة ثمنها إضفاء قدر من الهشاشة على مسار السلام.
لقد زادت أزمة البريكست الطين بلة. خلال استفتاء حزيران 2016، كان الحزب الوحدوي الديمقراطي الحزب الإيرلندي الشمالي الوحيد الذي دعا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. لم يصوّت الناخبون الإيرلنديون الشماليون فقط بنسبة 56% لفائدة بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، وهو ما أكد محدودية تمثيل الحزب الوحدوي الديمقراطي. بالمقابل، كان فوز خيار الخروج على مستوى كامل بريطانيا، سبباً لطرح صعوبات عدة بالنسبة لإيرلندا شمالية متمسكة باتفاقات الجمعة المقدسة، التي أنهت الحدود المادية بين جمهورية إيرلندا وإيرلندا الشمالية. من ناحيته، دعم حزب أولستير الوحدوي خيار البقاء في الاتحاد الأوروبي، وذلك من منطلق البراغماتية الاقتصادية. تستفيد إيرلندا الشمالية من اعتمادات مالية أوروبية مهمّة، سواء بعنوان السياسة الزراعية المشتركة (85% من مداخيل فلاحيها، كمعدل)، ومن اعتمادات هيكلية، أو أيضاً من صناديق خصوصية موجهة لتعزيز مسار السلام (برامج السلام).
لقد توجّب على الحزب الوحدوي الديمقراطي تحمّل تبعات موقف مساند للبريكست، مع سعيه إلى التخفيف من مشاعر القلق المرتبطة بتبعات الخروج على اقتصاد المنطقة. حتى وإن حمله ذلك على طرح ثلاثة مقترحات متناقضة: الخروج من السوق الموحدة، ورفض أية رقابة ديوانية بين بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية، ورفض حدود “قاسية” بين الشمال وجمهورية إيرلندا. على المدى القصير، كانت هذه الإستراتيجية مثمرة.
انتهت الانتخابات العامة ليوم 8 حزيران 2017 بانتصار الحزب الوحدوي الديمقراطي، الذي فاز في 10 من الدوائر الانتخابية الـ 18 في إيرلندا الشمالية، في حين لم يفز حزب أولستير الوحدوي في أية دائرة. بالنظر إلى كونه قد خسر أغلبيته في ويستمينستر، لم يعد بمقدور حزب المحافظين، حزب تيريزا ماي، أن يبقى في الحكم إلا بدعم الوحدويين الذين ارتقوا إلى منزلة صانعي الحكام. في أعقاب المفاوضات، التزم الحزب الوحدوي الديمقراطي بدعم المحافظين بخصوص لوائح الثقة ومشاريع قوانين المالية. مقابل ذلك، حصل الحزب على التزام بزيادة الإنفاق العمومي في إيرلندا الشمالية بمقدار مليار جنيه إسترليني على مدى خمس سنوات. منذ ذلك الوقت، أضحى الحزب الوحدوي الديمقراطي يحظى بسلطات تأثير مهمة على حلفائه المحافظين. بين كانون الثاني وآذار 2019، رفع الحزب الفيتو أمام الاتفاق الذي كانت رئيسة الوزراء على وشك توقيعه مع بروكسل. بعد عام من ذلك التاريخ، حرص بوريس جونسون، الذي كان يخوض حملته لخلافة ماي، على حضور المؤتمر السنوي للحزب. قدّم جونسون وعوداً كثيرة للوحدويين، ومن بينها وعد ببناء جسر بين إيرلندا الشمالية وبريطانيا العظمى. لقد ساهمت هذه النجاحات التي حقّقها الحزب، لوقت ما، في تعويض غياب حكومة تضم كل فئات السكان في بلفاست، كما أضحى الحزب الوحدوي الديمقراطي أكثر قدرة على التأثير المباشر على قرارات لندن. غير أن الحزب يبالغ في تقدير قوته. فرفضه المتتالي التصويت لفائدة اتفاق رئيسة الوزراء ماي، قد أجبر هذه الأخيرة على الاستقالة في أيار 2019. منذ ذلك التاريخ، تولى جونسون التفاوض على اتفاق أقل ملاءمة لانتصارات الوحدويين، باعتبار أنه تمّ التنصيص على عمليات رقابة جمركية بين إيرلندا الشمالية (التي بقيت في السوق الموحدة) وبريطانيا العظمى (التي خرجت من هذه السوق). لقد استنكر الحزب الوحدوي الديمقراطي هذا الاتفاق، لكن جونسون ليس ماي. الرجل أقل حرصاً منها على إرضاء حلفائه الوحدويين المقلقين، وهو يراهن على الانتخابات، التي يأمل أن تمنحه الأغلبية وتتيح له التخلّص من الوحدويين.
هكذا، يمكن لهذا الاقتراع أن يسفر عن هزيمة قاسية للحزب الوحدوي الديمقراطي، في ظل ظرفية أبرمت فيها بعض الأحزاب الإيرلندية الشمالية ميثاقاً ينصّ على معارضة البريكست: سحب مرشحيها من أجل زيادة حظوظ أفضل المرشحين من بينها في مواجهة الحزب الوحدوي الديمقراطي. لا ريب في أن العودة إلى الأرض وإلى الواقع، بالنسبة لحزب كان، قبل وقت قريب، يملك بين يديه مصير أوروبا، قد تكون مؤلمة جداً.