يا بياعين الحياء!؟
د. نهلة عيسى
أستيقظ من نومي، ونوبة الرشح صديقة يومي، مهدودة الحيل أنا، ولكني في البداية أحاول التجلد، ثم بعد دقائق أقرر الكف عن الادعاء، أنا مريضة، ما العيب في ذلك!؟ ولماذا يجب أن أدعي، ولماذا لا أستشير طبيباً، ولماذا لا أرتاح، ولماذا أمثل مثل جميعنا منذ تسع أعوام، أنني بخير، ببساطة، وبوقاحة: أنا ووطني لسنا بخير، وهذه أيام مثيرة للسخرية، كل ما فيها مفارق للمنطق وطبائع الأشياء، ومقارب للفوضى والعبث، لأنه مرسوم ومصنوع ومُخلق، ولأننا لا نفهم في صناعة العبث، رغم أننا نجيد العيش فيه، نرتكن إلى المتاح السهل، ونفسر ما يجري باعتباره قضاء وقدراً، وربما قصاصاً، وربما عبراً، كالمدعين العفة، يخدش حياءهم السباب، ولا تخدشه وقاحة القلة، وذل الرغيف، وجور الطريق، ومهانة الأبواب الموصدة!؟.
مثيرة للسخرية أيامنا، نعبر فيها بوابات القهر اليومية، كالسكارى، تتقاذفنا الإشاعات، وتحاصرنا الإتاوات، وتتآكلنا فاتورة الكهرباء في غيبة السيدة كهرباء، وفواتير الماء والغاز والمازوت والجوال، وبنطال الصغير، وقميص الصبية، والحذاء الذي خاض الحرب العالمية، والجار المتنمر، وزميلة العمل الثرثارة، و”كورونا” المتربص، والشهداء في حلب وادلب، وترامب قال، واردوغان رد، وضجيج.. ضجيج، يجعل الرأس ساحة حرب، لا الزناتي فيها انتصر، ولا أحد عاد يتذكر سبب الحرب!؟.
مثيرة للسخرية أيامنا، لأن كل مرافق حياتنا اليومية، باتت مسكونة بالغصات ويحكمها قبضايات لا نعرف بالضبط من هم، ولا ماذا يفعلون، ولكنهم يترصدوننا كما يترصد الصياد الفريسة، ويتولون قسراً إدارة تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة، ويفرضون علينا كرهاً قيمهم وسلوكهم ومزاجهم وأمراضهم النفسية، ويحاسبوننا على تقطيب الحاجبين، باعتباره خيانة وطنية؟! رغم أن معظمهم كانوا مثلنا بؤساء، أشقاء وجع وقهر، وشركاء حساء الحصى الذي نتجرعه ليل نهار، ورفاق الآلام العارية الممددة من البر إلى البحر، لكنهم التقطوا وبسرعة يحسدون عليها، عدوى الفساد وقيم الخارجين على القانون، والأمراض التاريخية لمقاولي وتجار الشعارات الوطنية، وتجاوزوا بؤسهم بالتنظير التاريخي “حلال على الشاطر” لسوقيتهم، وبأدلجة سرقاتهم، وطلاء ترهاتهم وبشاعاتهم بألوان العلم الوطني!؟ ونصمت نحن، رغم يقيننا أن الصمت على القبح مساهمة في تنشيط نسله وتناسله، وأن الحياد أمام الظلم هو الوجه الثاني للموت اليومي المفروض، وتستر على النتيجة خوفاً من مناقشة السبب، نصمت ثم نحمل القضاء والقدر المسؤولية!!.
والحق يقال: أن لا علاقة للقضاء والقدر بكربنا، فنحن من طأطأ الرأس ما دامت الملاليم في الجيب رغم نذر الخطر، ونحن من جعلنا الحاجب باشا، والجاهل المقتدر معلم، وعلمنا أولادنا السفاهة واقتناص الفرص، كانوا لائقين بها أم لم يكونوا، ووقفنا طوابير نسترضي فلاناً وعلاناً، وندعي عليهم في سرنا بالشلل، ونحابي الفاجر، والجاعر، ونخاف إن قال أحد بجانبنا قول حق، أن يقال: أننا كنا إلى جانب من قال!.
مثيرة للسخرية أيامنا، لأننا نعيش مع الموتى، وهم يتجولون في ذاكرتنا طوال النهار مثل سكين، ويسألون، وهم “موتى” عن حياتنا: أين النور، أين فلان وفلان، وما خطب الشوارع والجدران، ولماذا وجوهنا بائسة لا مبالية، كرغيف الشعير؟ ونخشى وربما نخجل، أو ربما نخاف عليهم من الاكتئاب! أن نجيبهم أننا نموت بالتقسيط، وأن بؤسنا صار لقاحنا ضد الموت، والموت صار لقاحنا ضد الخوف، والمحتضر المخضرم مثلنا، لا يملك إجابة عن الحياة أثناء احتضاره سوى أنها قصاص ودار فانية، وموتنا المؤجل أمن وقائي، وجوعنا صمود، وصمتنا حياء!!.
نخجل أن نجيب، ويجب أن نخجل، وترحل من فمنا الكلمات، وآخر مظهر من مظاهر الحضارة ( الدفء والكهرباء) يلفظ أنفاسه الأخيرة على كتف “بكرا أحلى”، وبانتظار بائعي الحياء، وها نحن نعود عصوراً عديدة إلى الوراء، لتجيب واحدة مثلي على ضوء قنديل شحيح، عن سؤال يتعلق بتعبئة استمارة خاصة بها، مطلوب فيها ذكر “مقر الإقامة الدائم”، بلا تلكؤ، ولا تفكير، ولا حياء، وبكل الحب رغم القهر: سوريّة.