عن الملتقى العالمي لمناهضة الامبريالية في فنزويلا
د. إبراهيم علوش
انعقد في كاراكاس، فنزويلا، الأسبوع الفائت، الملتقى العالمي لمناهضة الامبريالية بمشاركة أكثر من ألفي مندوب فنزويلي و403 مندوبين دوليين من أكثر من خمسين دولة، وقد كان الملتقى سياسياً تظاهرة عالمية ملفتة لمناهضة الإدارة الأمريكية وسياساتها ولدعم الدول والحركات المستقلة، كما كان الملتقى عقائدياً تأكيداً على عقلانية الخيار الاشتراكي وراهنيته البرنامجية في مواجهة تغوّل الشركات العالمية الكبرى على كوكب الأرض وموارده وشعوبه والاختلالات البيئية والأزمات الاقتصادية والسياسات العدوانية والحربجية التي لا تملك المنظومة الامبريالية الآفلِ نجمُها أن تستمر من دونها.
تعبير “المنظومة الامبريالية” بالمناسبة، أو “الامبريالية” اختصاراً، ليس رديفاً لتعبير “استعمار” الذي يفيد معنى الغزو والاحتلال المباشر الطويل كالاحتلال الصهيوني لفلسطين والجولان مثلاً، فيما الامبريالية منظومة هيمنة عالمية متعددة الأبعاد، قد تلجأ أو لا تلجاً للعمل العسكري المباشر، الذي قلما يأخذ طابع الاحتلال طويل المدى، كما في أفغانستان والعراق، إذ أن أدوات فرض الهيمنة الامبريالية باتت تأخذ أكثر فأكثر شكل الحصار والعقوبات، وزعزعة استقرار العملة المحلية، والمقاطعة السياسية، والاختراق الأمني، والتغلغل الثقافي، وتفعيل “الحراكات الملونة” في الدول المستهدفة إلى جانب التدخل العسكري عن بعد، من الدرونات والعمليات الخاصة إلى القصف الجوي، وزرع القواعد العسكرية حول العالم، ولذلك فإن “الامبريالية” مفهوم علمي لا يمكن فهم عالمنا المعاصر من دونه، ونقيضه الموضوعي اليوم هو الدول والحركات المستقلة التي قد تكون اشتراكية أو غير اشتراكية.
على سبيل المثال، أعلنت الجهات المنظّمة للملتقى العالمي لمناهضة الامبريالية أن 1200 مندوب دولي تمت دعوتهم للمشاركة فيه، لكن عملية تخريب منهجية أدارتها المنظومة الامبريالية وأدواتها عطّلت حجوزات مئات المندوبين، أو أعاقت تحويل ثمن تذاكر السفر من قبل الجهة الداعية لإتمام تلك الحجوزات، وهو ما منع وصول حوالي 800 مندوب، بعضهم من دول عربية، إلى الملتقى في كاراكاس، ومن ذلك مثلاً أن اثني عشر مندوباً سورياً لم يتمكن من الوصول منهم إلا اثنان، ومن تونس كان هناك أربعة مدعوين وصل منهم واحدٌ، إلخ… وهو مثال ملموس على معنى “منظومة الهيمنة الامبريالية”، كما أنه دليلٌ على أن تلك المنظومة تتوجس خيفةً من مثل هذه الملتقيات الدولية والإقليمية المناهضة لها، وتسعى لإفشالها وإحباطها، ولا تتعامل معها بأنها “مجرد كلام”، كما يفعل بعضنا للأسف، ولا سيما عندما يكون هدفها المعلن هو تأسيس حركة شعبية عالمية لمناهضة الامبريالية، ومساندة قضايا الشعوب التحررية عموماً التي حظيت أقطارنا العربية وإيران بحصة معتبرة منها في كلمات المندوبين والمنظمين وفي البيان الختامي للملتقى.
الحضور السوري في الملتقى برز منذ الجلسة الافتتاحية من خلال مشاركة د. محسن بلال ممثّلاً لحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي ارتجل كلمةً بالإسبانية ألهبت الحضور تكراراً، وكذلك برز الحضور السوري في اليوم الثالث حينما ألقى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو كلمةً في حديقة عامة، ود. بلال إلى جانبه، افتتحها بالحديث عن سورية، وما تتعرّض من تدخل امبريالي، معلناً وقوف فنزويلا مع سورية، شعباً ودولةً وجيشاً ورئيساً، محيياً السيد الرئيس بشار الأسد بالاسم، ومستذكراً رحلته مع الرئيس الراحل أوغو تشافيز إلى سورية عندما التف حول سيارة تشافيز آلاف السوريين، ورفعوها في الهواء احتفاءً بالقائد الشجاع المناهض للامبريالية، على حد قول الرئيس مادورو.
كذلك التقط الرئيس مادورو مناسبة التظاهرات المليونية ضد الاحتلال الأمريكي للعراق ليعلن على الملأ: “كل الدعم للعراق، كل فنزويلا تقف مع العراق!”، مؤنباً منظمات حقوق الإنسان حول العالم لعدم اكتراثها لحياة العراقيين على مدى 17 عاماً من القتل الامبريالي والإرهاب والتفجيرات.
الحضور الإيراني في الملتقى كان واضحاً وبارزاً ومنظماً وفعالاً ومتعدد المستويات وصولاً للمستوى الشبابي، وقد تم تبني القائد الشهيد قاسم سليماني في البيان الختامي كرمز مناهض للامبريالية، كما تم الاحتفاء به وبشهادته في الكلمات والملصقات المنتشرة في القاعة الرئيسية، ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى الجهد المنهجي الذي تبذله إيران باتجاه أمريكا اللاتينية منذ سنواتٍ طوال، ومن ذلك مثلاً قناة “هيسبان” Hispan TV الإيرانية الناطقة بالإسبانية، والتي تمت إزالتها عن العديد من الأقمار الأوروبية والأمريكية منذ عام 2013..
ملاحظتي الوحيدة على الملتقى العالمي لمناهضة الامبريالية هي ضعف الحضور العربي عدداً وتنظيماً وتنسيقاً، ولا سيما على مستوى اللجان، ما أعاق من قدرتنا على التعبير عن قضايانا بصوتنا وطريقتنا، فعلى الرغم من التضامن العارم مع قضية فلسطين مثلاً، ومساعينا لربط مناهضة الامبريالية بمناهضة الصهيونية، فإن فلسطين غابت عن البيان الختامي مثلاً، وكان الوفد الأردني وعدد من الفلسطينيين المقيمين في فنزويلا قد أرسلوا توصيات حول القضية الفلسطينية للجهة المنظّمة عند صدور مسودة البيان الختامي!.
كذلك اكتشفنا خلال إحدى ورشات العمل على هامش الملتقى، كُرست لمناقشة موضوعة الهيمنة الامبريالية في مجال الإعلام والاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، أن قناة تيليسور Telesur التي تبث من كاراكاس، والتي تتلقى دعماً من كوبا ونيكاراغوا والأروغواي، بالإضافة للدولة الفنزويلية ممولها الرئيسي، تم إلغاء بثها في عدد من البلدان الأمريكية الجنوبية، وأن جهوداً أمريكية حثيثة تُبذل حالياً لحجبها عن الأقمار الصناعية.. واكتشفنا أيضاً أن ما نعانيه من عمليات حظر وحجب وعقوبات ضد المحتوى الفلسطيني والعروبي على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما “فيسبوك”، يعانيه النشطاء في دول مختلفة، أي أن فيسبوك مثلاً قد يقوم بحظر المنشورات المؤيدة لمادورو بالإسبانية أو المناهضة للدمية الأمريكية المعينة رئيساً بديلاً في فنزويلا خوّان (الشدة على الواو من عندنا) غوايدو.. وهو ما يطرح الضرورة الماسة لتأسيس بنية تحتية تقنية لشبكة تواصل اجتماعي مستقلة عن الهيمنة الامبريالية تمتد من كوريا الديموقراطية الشعبية إلى سورية إلى فنزويلا.
خارج الملتقى، يلمس المرء من اللحظات الأولى لدخول الباص أحياء كاراكاس، مدى تأثير العقوبات والحصار الاقتصادي على الحياة اليومية للفنزويليين، فحوالي ثلاثة أرباع المتاجر والحوانيت مغلقة، والحركة الاقتصادية شبه متوقفة، وبعض المحلات المفتوحة أبوابُها لا تجد فيها كثيراً، مثلاً محل خضروات لا يعرض للبيع إلا موزاً.. وبشكل عام يلمح المرء الكثير من علامات الفقر وحتى الجوع من جراء العقوبات القاسية، ومصادرة الأصول الفنزويلية، وإعاقة تصدير النفط الفنزويلي، وهو ما يصيب المواطن الفنزويلي العادي أولاً، فهي عملية ابتزاز امبريالية بشعة للمواطنين تهدف لدفعهم للانقلاب على بلدهم.
الحوار المألوف حول أثر العقوبات والحصار مقابل سوء الإدارة والفساد تجده في فنزويلاً أيضاً… لكن ما يجري في فنزويلا، مقارنةً بغيرها، يُظهر أثر الحرب الاقتصادية بجلاء، ولا سيما الحرب على العملة الوطنية، فراتب الفنزويلي العادي يتراوح حول سبعة (7) دولارات أمريكية في الشهر! والعملة الوطنية، البوليفار، التي كانت تساوي عشرة آلاف بوليفار مقابل الدولار عام 2016 باتت الآن تساوي حوالي ثمانين ألف بوليفار تقريباً مقابل الدولار، وكانت عام 2013 تساوي أكثر بقليل من ستة بوليفارات فقط مقابل الدولار! والثمانون ألفاً هو سعر الصرف الرسمي… أما على عشرات المواقع الانترنتية، فإنك تجد أسعاراً افتراضية خيالية، تصل إلى عدة ملايين من البوليفارات مقابل الدولار الواحد، من الواضح أنها تفبرك يومياً لزعزعة الثقة بالعملة الوطنية.
المعاناة اليومية للمواطنين الفنزويليين، يضاف إليها ارتفاع معدل الجريمة بشكلٍ غير مسبوق، من دون حرب، وفوق بحرٍ من النفط، لا تصدق! لكن الملفت الصارخ في فنزويلا هو مدى التحام الحزب الاشتراكي الموحد الحاكم بالجماهير، وقدرته على تعبئتها وشحنها ضد الامبريالية الأمريكية وأدواتها في أصعب الظروف وأقساها، فعندما أعلن الحزب عن تأسيس ميليشيات مساندة للدولة (قوات رديفة)، انضم إليها 4 ملايين فنزويلي من الطبقات الشعبية من الجنسين وكافة الأعمار، حتى أنك تجد جداتٍ وجدوداً ويافعين يجوبون الشوارع والمؤسسات بينهم، وعندما قرر الحزب تسهيل شروط الانضمام إلى صفوفه، تقدّم 137 ألف فنزويلي إضافي بطلبات انتساب خلال بضعة أيام!.
وبشكلٍ عام، فإن من يتخذ موقف التشكيك والسخرية من فكرة “التعبئة والتنظيم” في بلادنا سوف تصدمه مدى فعالية تلك الفكرة في فنزويلا تحت الحصار، ومدى قدرة الحزب على تطوير خطاب سياسي مؤثّر بالناس، في ظروفٍ من التقشف القاسي، ومدى اتسام الكوادر الحزبية بالانضباط والانتماء. وفي النهاية، هذه حرب، والحروب نصفها معنويات، وهي لا تخاض من خلال بذر الشك والإحباط والسلبية في الصفوف، ونموذج فنزويلا يثبت أن للأيديولوجيا القومية الاشتراكية دوراً مهماً تلعبه في تحصين الدولة والشعب، إنما العبرة في بلورة استراتيجيات تواصل جماهيري تجعلها مقنِعةً لمُرسِلِها قبل أن تكون مقنِعةً لمستقبِلِها.