عن النقد
محمد راتب الحلاق
النقد الأدبي نقدان: نقد تنظيري يضع المهاد الفكري والفني والتقني للشغل النقدي على النصوص الإبداعية، بقصد تأصيل المفهومات وتوضيحها، وضبط المصطلحات لتعني الشيء ذاته عند الجميع، لتوحيد الآراء ووضع المعايير التي يتم بموجبها تقويم النصوص والحكم عليها.
ونقد تطبيقي، يشتغل على نص محدد، بقصد الكشف عن مواطن التوهج ومواطن التقصير فيه، بناءً على المعايير التي وضعها النقد التنظيري، من دون أن ننسى أن لذوق الناقد أهمية بالغة في الأحكام النقدية في نهاية المطاف.
وللأسف الشديد فقد تحول النقد التنظيري، في كثير من الحالات، إلى تعالم وتفاصح، حيث يلجأ الناقد إلى حشد المصطلحات، بمناسبة ومن دون مناسبة، (للخم القارئ) وإرباك تفكيره، وجعله يستسلم لمقولات الناقد حتى لا يتهم بالتخلف والجهل. كما تحول النقد التطبيقي، في كثير من الحالات أيضاً، إلى المجاملة على حساب الموضوعية، أو إلى التجريح بقصد الانتقام والإساءة بعدوانية غير مبررة وغير مفهومة، لكنها تقع خارج نطاق الأدب (بالمعنيين التقني والأخلاقي).
وما نراه من كتابات نقدية تطبيقية تجعلنا في كثير من الحالات نترحم على نقاد منتصف القرن الماضي ومبدعيه وما كان يجري بينهم من (معارك أدبية)، حيث كان المبدع والناقد فرسي رهان.
وبالمناسبة فإن الملاحظة تشير إلى أن من يعرفون بجيل الستينيات من القرن الماضي قد حظوا باهتمام النقد والنقاد بما لم يحظ به من جاء بعدهم، بل إن جيل التسعينيات وما بعد قد قوبل بالتجاهل والإهمال، إما عن قصد وسابق إصرار، أو نتيجة ضعف إمكانات النقاد، وعدم قدرتهم على المتابعة، نتيجة اندياح هذا الكم الهائل من النصوص بعد أن أتاحت وسائل التواصل الفرصة لكل من يظن نفسه أنه غدا شاعراً أو أديباً مادام يستطيع نشر ما تجود به قريحته. مما جعل الشعراء الذين يستحقون هذه الصفة، يشعرون بالغبن، والحقد على النقد والنقاد، والحط من شأن الفعالية النقدية وازدرائها، وحسبانها نوعاً من اللغو الذي يمارسه أناس فاتهم قطار الإبداع فاتجهوا إلى النقد انتقاماً، في نقد حاقد ومدمر.
مع أن النقد المعاصر فعالية فلسفية بصورة ما، طالما أن الناقد يتخذ موقفاً مما يشتغل عليه، سواء أكان شغله على نصوص فكرية أم سياسية أم أدبية، أم على وقائع وأحداث جرت أو تجري في سياق التاريخ، وهذا ما بات يعرف بالنقد الثقافي. وقد اصطلح على تسمية الحضور الشخصي القوي للباحث في بحثه باسم التفكير الناقد، هذا إذا كان الباحث يملك رأياً أصيلاً، أي رأياً جديداً ومبتكراً، وليس مجرد إعادة تنظيم لآراء الآخرين دون وعي حقيقي بهذه الآراء.
أعرف أن كلامي لن يروق لبعض المثقفين وبعض الباحثين الذين سيتهمونني بتبسيط الأمور وتسطيحها، ولاسيما ما يتعلق بمفهوم الفلسفة فبرأي هؤلاء أن بعض المقالات النقدية المعزولة، مهما كانت مهمة، لا تصنع من منتجها فيلسوفاً (مع أنني لم أهب الناقد صفة الفيلسوف وإنما قلت إن النقد يدخل ضمن الفعالية الفلسفية). وينسى هؤلاء أن عصر الفيلسوف الموسوعي، الذي في أذهانهم، قد أفل إلى غير رجعة، نتيجة التفجر المعرفي المذهل، الذي لم يعد من الممكن معه امتلاك المعرفة الموسوعية الشاملة من قبل أي شخص، لذلك، ومنذ قرن على الأقل، لم نعد نسمع بفيلسوف من أصحاب المذاهب.
الفلسفة المعاصرة، إذن، يصنعها النقاد والمفكرون منتجو الثقافة ومريدوهم وتلاميذهم من الباحثين، وجملة ما ينتجونه، إن شكل ما يشبه المذهب الفلسفي، فلا يمكن أن ينسب إلى واحد منهم.