ماذا تريد الدولة العميقة الأمريكية في سورية؟
د. إبراهيم علوش
صدر في 12 شباط الفائت تقريرٌ من 42 صفحة بعنوان “النزاع المسلح في سورية: لمحة عامة والرد الأمريكي” عن مركز الأبحاث التابع للكونغرس الأمريكي Congressional Research Service، وهو مركز أبحاث تأسس عام 1914، يضم 600 موظف، بينهم باحثون من مختلف التخصصات، وتبلغ موازنته السنوية حوالي 110 مليون دولار، وهو مركز أبحاث غير حزبي، بمعنى أنه عابر للحزبين الجمهوري والديموقراطي، وبالتالي يمثّل الدولة العميقة في الولايات المتحدة.
وكان بعض ما جاء في تقرير المركز المذكور عن السياسة الأمريكية في سورية:
– تقول إدارة ترامب، بحسب التقرير: إن أهدافها السياسية تتمثّل في السعي لتحقيق: 1) الهزيمة الدائمة لـ “الدولة الإسلامية”، والتقرير يستخدم هذا المصطلح تحديداً، لا “داعش”، 2) الحل السياسي لـ “الحرب الأهلية السورية”، ولننتبه، مجدداً، لمصطلح “الحرب الأهلية”، بدلاً من الإرهاب والاحتلالات والتدخل الخارجي والحصار، 3) “انسحاب القوات المأمورة إيرانياً” من سورية.
– يقول التقرير، بالنسبة للهدف الأول: إن وزارة الدفاع الأمريكية أنفقت حتى نهاية 2019 أكثر من 40 مليار دولار في محاربة “الدولة الإسلامية” في سورية والعراق، ولكن “المجموعة” ما تزال متماسكة وبنيتها القيادية سليمة، وتحافظ على حضور متمرد في معظم أرياف سورية! وهذا يعني ضرورة إبقاء تواجد عسكري أمريكي في كل سورية فعلياً من وجهة نظر كاتبي التقرير!.
– يقول التقرير، بالنسبة للهدف الثاني: إن الولايات المتحدة ما تزال تدعم “الحل السياسي” بين الحكومة و”قوات المعارضة السورية” بموجب قرار مجلس الأمن 2254 الذي يفسره التقرير بأنه يعني “صياغة دستور جديد وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة”، و”مرحلة انتقالية”، إلخ.. ولكن “استخدام حكومة الأسد للقوة لاستعادة معظم مناطق المعارضة قلل من إمكانية الضغط على دمشق للتفاوض”..
– قول التقرير إن الدولة السورية “استخدمت القوة لاستعادة مناطق المعارضة” يعني ضمناً أنها لا تريد الحل السياسي، وقوله إن استعادة الدولة لمعظم مناطق “المعارضة قلل من إمكانية الضغط عليها للتفاوض”، يعني أنه لا يجوز سحب القوات الأمريكية من سورية لكي لا يقل الضغط عليها أكثر..
– يقول التقرير، بالنسبة للهدف الثالث: إن “إخراج إيران من سورية هو هدف سياسي لا عسكري”، وإن مسؤولي الإدارة الأمريكية أكدوا على أن الولايات المتحدة “سوف تسعى لمواجهة النشاطات الإيرانية في سورية باستخدام أدوات اقتصادية أساساً مثل العقوبات”، مضيفاً إن الولايات المتحدة استهدفت عسكرياً “الميليشيات المدعومة إيرانياً في سورية عندما شعرت بأنها تمثّل خطراً على الائتلاف”.
– ومثل هذا الكلام يعني أولاً أن الإدارة الأمريكية غير معنية بصدام عسكري مع إيران، ويعني ثانياً أن الولايات المتحدة ترسل رسالة بأنها لا تفرض عقوبات على سورية، “بل على الوجود الإيراني فيها”، ولكنه كلام يعني بالمحصلة النهائية أن العقوبات الاقتصادية سوف تتصاعد، أي لا أفق قريباً لتخفيف الحصار الاقتصادي على سورية، وهو ما يتوجب إعداد العدة له جيداً.
– الغريب في التقرير أنه يعد الاحتلال التركي شمال سورية جزءاً من “حملة أوسع تستهدف المقاتلين الأكراد”، مع أن محور المعركة اليوم في محافظة إدلب لا فعالية كردية عسكرياً فيها.
– كذلك نشير إلى أن “محاربة الإرهاب” هي ذريعة الولايات المتحدة المعلنة للتواجد عسكرياً في سورية، ولعدم سحب قواتها منها “خوفاً من تجدد الخطر الإرهابي” بحسب زعمها، كما سبقت الإشارة في تقرير “مجموعة دراسة سورية” (البعث 15/10/2019)، لذلك فإن القضاء على البؤر الإرهابية شمال غرب سورية ينزع من يد الولايات المتحدة أحد أهم ذرائع تواجدها الاحتلالي في سورية.
– كان من الملفت زعم الإدارة الأمريكية أنها قتلت أبا بكر البغدادي في جبال حارم في إدلب في أقاصي شمال غرب سورية، وليس في شرق الفرات أو غرب العراق، وهو ما يوحي بأن بؤر الإرهاب التي يزعم معارضو قرار ترامب سحب القوات الأمريكية من سورية بأنها باتت تقع غرب الفرات، فلماذا يا ترى تعارض الإدارة الأمريكية والكونغرس حملة الجيش العربي السوري وحلفائه لاجتثاث تلك البؤر الإرهابية من حلب وإدلب إذاً؟!
– مزاعم استخدام الكيماوي من قبل الدولة السورية يتم إلقاؤها يمنةً ويسرةً في ديباجة التقرير كأنها تحصيل حاصل من دون إثبات أو دليل، وهذا مهم فقط من ناحية تبرير التواجد العسكري وأي عمل عسكري محتمل ضد سورية، والأهم تبرير الحصار والعقوبات على سورية ضمناً كـ “أضعف الإيمان”.
– يذكر التقرير أن الكونغرس الأمريكي زاد من مخصصات تمويل النشاطات الأمريكية في سورية بقيمة 200 مليون دولار بعد قرار ترامب الانسحاب منها، وهذا يعني تجاوز الكونغرس سياسة الرئيس الأمريكي في الميدان السوري، وكان قرار تفويض الإنفاق في سورية خلال العام 2020 قد غيّر تعريف الجهات المتلقية للإنفاق الأمريكي من “قوات المعارضة السورية” إلى “مجموعات وأفراد تم تدقيقهم بشكلٍ مناسب”، مع تقليل شروط تبليغ الكونغرس حول طبيعة ذلك الإنفاق وهدفه، وهذا يعني تفويض الكونغرس لإنفاق في سورية من نمط حروب الجيل الرابع فعلياً.
– يضيف التقرير: إن قانون مخصصات “العمليات الأجنبية” لعام 2020 يتضمن بنوداً عدة تتعلق بسورية والعراق عموماً، أو بسورية خصوصاً، منها موازنات لـ : أ – “الأقليات الدينية والعرقية”، ب – “شراكات مكافحة الإرهاب”، ج – الدعم الطبي و”التحقيقات في استخدام الأسلحة الكيماوية”، د – برامج المحاسبة على “جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية”، ه – برامج “دعم استقرار” المناطق المحررة من “داعش” وغيرها، ناهيك عن 200 مليون دولار مخصصة لبرنامج “التدريب والتجهيز” ضد “داعش” في سورية تحديداً.
– يؤكد التقرير على أن قرار تفويض الإنفاق في سورية يرتبط بالفقرات الواردة في “قانون قيصر” ضد البنك المركزي السوري، وضد أي جهة أو شخص غير سوري يتعاون مالياً أو مادياً أو تكنولوجياً أو عسكرياً مع الدولة السورية، أو يقدّم لها عوناً في قطاع: أ – النفط والغاز، ب – الطيران وقطع غيار الطائرات، ج – الإنشاءات والخدمات الهندسية.
– يذكر التقرير بأن قانون قيصر يجبر الرئيس على عرض استراتيجية واضحة لمنع أي جهة أو شخص من الدخول في عقود إعادة إعمار مع الدولة السورية، والفكرة من ربط تفويض الإنفاق ببنود محددة من قانون قيصر هي أن ذلك يجبر الجهاز التنفيذي على تطبيق ذلك القانون بحذافيره، وبتشدد، وإلا اعتبر تفويض الإنفاق في سورية لاغياً، وهذا يعني أن على سورية الاستعداد لعقوبات وحصار مطولين، أسوةً بكوبا وكوريا الديموقراطية.
– ينظر التقرير بغصة لتمدد القوات السورية والروسية شرق الفرات بعد قرار الانسحاب الأمريكي والتدخل التركي، ويعد ذلك مصدراً محتملاً لاحتكاك الروس عسكرياً مع قوات الاحتلال الأمريكي في مناطق تتداخل فيها خطوط الدوريات.
– يقول التقرير: إن حملة تحرير حلب وإدلب نجمت عنها “كارثة إنسانية”، ومع ذلك، فإنه يُقر بأن إدلب هي ملعب “جبهة النصرة” ومنظمات إرهابية أخرى يقول التقرير بوضوح: إن الولايات المتحدة توقفت عن “محاربتها” منذ شهر أيار عام 2018!.
– يقر التقرير بأن الانتخابات الرئاسية عام 2014 وتعزيز سيطرة الدولة السورية اللاحق على معظم سورية أفشل مشروع “تغيير النظام”، أو حتى “تغيير سياساته” بما يرضي الإدارة الأمريكية كما طرح ترامب، كما استنتج التقرير بأن المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة في ظل موازين القوى الحالية ليس من المرجح أن ينتج عنها تغيير حقيقي في بنية الدولة السورية كما ترجو الإدارة الأمريكية.
– وفي النهاية، يعبّر التقرير عن حالة التخبط التي تعيشها الإدارة الأمريكية إزاء سورية بالكلمات التالية التي أترجمها حرفياً: “قد يعيد الكونغرس والإدارة الأمريكية تفحص نقاط الضغط المتبقية التي يمكن أن تمارسها الولايات المتحدة (على سورية)، وما إذا كان من الممكن تنمية نقاط ضعف جديدة تساعد بشكلٍ أفضل على تأمين نتيجة مقبولة سياسياً بالحد الأدنى، مع العلم أن أعضاء الكونغرس والإدارة الأمريكية قد يختلفون فيما بينهم حول ما قد تستلزمه مثل تلك النتيجة”. لكن الجملة الأخيرة في التقرير تقول حرفياً: إن “الإذعان لانتصار الأسد قد تكون له عواقب أمنية ودبلوماسية طويلة المدى على الولايات المتحدة وشركائها”.
– إنهم يتخبطون إذاً، ولكن دعونا لا نستعجل إعلان النصر، لأنهم لن يستسلموا بسهولة، ولن يقبلوا بأقل من السعي لتدمير سورية وإبقائها مدمرة كثمنٍ لهزيمتهم المحيقة باعترافهم، ولا يجوز الاسترخاء قبل النصر بقليل تحسباً من أحصنة طروادة كثيرة.