بنية القصيدة
محمد راتب الحلاق
يظن بعضهم أن الشعر بمعناه، في حين يظن آخرون أن الشعر بمبناه، من دون أن ينتبه هؤلاء جميعاً إلى أن ثنائية المبنى والمعنى ثنائية زائفة حين يتعلق الأمر بالفنون والآداب، أما إن شاء القارئ أن يقول إنها قضية إجرائية فحسب، يتم اللجوء إليها لتساعد في تلقي النصوص بصورة منهجية، فله ذلك. فالقصيدة الجيدة، كأي عمل فني جيد، بنية يتواشج فيها المعنى بالمبنى بصورة لا يطغى فيها المبنى عبر التزويق والتنميق والزخرفة، ولا يصرخ فيها المعنى ليلفت الأنظار إليه وحده، لأن الحقيقة الجمالية تكمن في هذه البنية، وﻻ شيء غير هذه البنية، وأية محاولة لفصل مضمونها عن شكلها محاولة بائسة؛ بل إن أية محاولة من هذا القبيل تعني ببساطة شديدة إخراج النص من دائرة الشعر. لأن القيمة الجمالية لأية قصيدة تكمن في عدم إمكانية فصل الشكل عن المضمون، ﻷنهما قد تماهيا في البنية التي اقترحها الشاعر، أو في البنية التي اختارتها القصيدة لنفسها حسب زعم بعض الشعراء، مما يعني أن المعنى قد توارى في الشكل وأخذ صورته، حتى لكأنه لم يعد ثمة إلا الشكل.
وإذا استخدمت لغة الفلسفة أقول: إن المعاني هي المادة العماء (الهيولى) التي تنتظر من الشاعر أن يهبها الصورة لتكون القصيدة، وأن يقترح عليها الشكل الجميل الذي تخرج به إلى المتلقين في أبهى صورة يستطيعها الشاعر.
وحسب أرسطو، في ثنائية الوجود بالقوة والوجود بالفعل، فإن المادة العماء، وهي هنا المعاني، قابلة للتشكل في عدد ﻻ محدود من الصور الممكنة، التي توجد بالقوة، ثم يأتي الشاعر (واهب الصور والأشكال والبنى) فينحاز إلى صورة معينة من هذه الصور الممكنة ويهبها للمعنى فيكون الوجود بالفعل. والشاعر يحتفي بشكل المعنى وصورته أكثر من احتفائه بالمعنى ذاته، من دون أن يفهم أحد أنني أحط من قيمة المعنى فهو روح القصيدة، كل ما في الأمر أن الشاعر يحاول أن يلبس هذا المعنى أجمل الأزياء. فالمادة العماء متوفرة للجميع، والمعاني مرمية في الطرقات حسب تعبير جدنا الجاحظ. وميزة الشاعر تكمن في قدرته على منح الصورة الجميلة للمعنى، والتي تكون أكثر إدهاشاً وأصالة عند الشاعر الموهوب. ولطالما ضحى الشاعر ببعض ظلال المعنى في سبيل جمال الشكل.
في العمل الفني الجميل، وفي القصيدة الجميلة، لا توجد إﻻ البنية الجميلة، فلا شكل ثمة وﻻ مضمون، وإنما قصيدة جميلة أو عمل فني رائع، وعندما يعلو صوت المضمون نكون أمام اﻷيديولوجيا الفجة، وعندما يعلو صوت الشكل نكون في عصور الانحطاط، عصور الزخرفة والبهرجة، فالشعر، والفن عموماً، بنية جميلة تختزن نداء المتمرد وغير المدجن في الذات، نداء الحرية والمبادرة؛ إنه قراءة فذة في أغوار النفس البشرية في نزوعها إلى عالم من الفتنة والغواية والغبطة واللذة.. عالم متناقض مع قيم المدينة الفاضلة، لأنه، ببساطة شديدة، ينطلق من قيمه الخاصة، وهي قيم فاضلة هي الأخرى، وإن بدت، في لحظة من اللحظات وكأنها رجيمة وشاذة.
قيم الشعر، وقيم الفن عموماً، تثور على العادي والنمطي والمألوف لصالح الجميل والمدهش والطريف والغريب، وتحاول أن تنتقل من الراكد والمستقر إلى الجديد والمختلف، الذي قد يبدو للبعض أنه فوضى عارمة، وما هو بفوضى، ولكنه رؤية جديدة تعيد ترتيب الوجود بصورة أجمل وأبهى، شرط أن يتم التعبير عن ذلك كله بأساليب الشعر واستراتيجيات الفن، لإنجاز بنية قادرة على الإدهاش، بعيداَ عن النظم والاجترار وإعادة تنظيم ما سبق.