كيف صنعت الاستخبارات البريطانية خرافة “الثورة السورية”؟
هيفاء علي
بعد تسعة أعوام على الحرب المستعرة التي تتعرّض لها سورية، والتي تشهد نهاياتها بفعل الانتصارات العظيمة التي حقّقها الجيش العربي السوري في الميدان، واستعادة السيطرة على معظم المناطق التي اجتاحها الإرهاب الدولي، تتكشف الأمور ويتضح دور كل دولة من الدول الغربية التي شكّلت جوقة التآمر على سورية، وقدمت كل أشكال الدعم للتنظيمات الإرهابية بمختلف مسمياتها، بما في ذلك التسليح والتمويل واستقدام المرتزقة من 88 دولة. وها هو الصحفي الفرنسي “تيري ميسان” يكشف خيوط الدور البريطاني من خلال مجموعة من الوثائق المسرّبة من قبل الصحفي البريطاني ايان كوبان وتمّ نشرها في الغارديان، إذ تشير هذه الوثائق إلى تنظيم البروباغندا البريطانية ضد سورية من قبل وكالة الاستخبارات البريطانية MI6.
يقول ميسان: علّمنا التاريخ أن البروباغندا الحديثة ظهرت خلال الحرب العالمية الأولى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، ومن ثم استنسختها ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي.
وخلال الحرب على سورية، أوضحنا في كثير من الأحيان أن الواقع على الأرض يختلف مع الصورة التي يسوّقها الإعلام الغربي، وندّدنا بتلفيق الأدلة التي قدمتها أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والتركية لإخفاء العدوان الغربي، وتسويق فكرة أن ما يحصل في سورية هو “ثورة ضد الديكتاتورية”.
قبل كل شيء، من المهمّ أن نتذكر أن البريطانيين لم يسعوا لتحقيق الهدف نفسه على الإطلاق، مثل هدف حلفائهم في الولايات المتحدة. كانت لندن تأمل باستعادة سلطتها التي كانت عليها في الحقبة الاستعمارية على المنطقة، تماماً كما هو هدف فرنسا، ولم تكن المملكة المتحدة تظن أن الولايات المتحدة تنوي تدمير هياكل الدولة في منطقة الشرق الأوسط بأكملها (إستراتيجية رامسفيلد/ سيبروفسكي). لهذا السبب صمّمت عملية “الربيع العربي” على غرار “الثورة العربية الكبرى” التي قام بها لورانس العرب، حيث يلعب “الإخوان المسلمون” اليوم دور الوهابيين في الحرب العالمية الأولى. لذلك تمّ تخيّل دعايتهم لإقامة سورية الجديدة حول جماعة “الإخوان المسلمين” وليس لتقسيمها كما تريد وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وما زالت تريد.
ويضيف الكاتب: تمّت قيادة بعض الصحفيين بحسن نيّة من قبل “الثوار” إلى قرية سورية في جبل الزاوية، لحضور مسيرات وتسجيلات فيديو بواسطة عناصر ما يُسمّى “الجيش الحر”. انطلت الخدعة والتضليل عليهم فصدّقوا أن هناك انتفاضة شعبية، عندما استنكر دانييل إريارتي في جريدة ABC الإسبانية هذه المشاهد الملفقة، لأنه تأكد على الفور أنهم ليسوا مقاتلين سوريين، وإنما مرتزقة أجانب وليبيون وسعوديون وأردنيون ومغاربة بقيادة عبد الحكيم بلحاج ومهدي الحراتي، رفضت الصحافة الاعتراف بالتلاعب والتلفيق في مقاطع الفيديو والصور، ما يؤكد فكرة أن عدم قدرة الصحفيين على الاعتراف بأخطائهم، حتى عندما يربكهم بعض زملائهم، لا يزال يمثل أفضل ميزة لأسياد البروباغندا.
كما هي الحال دائماً، استخدم البريطانيون في وحدة البحوث والمعلومات والاتصالات (RICU) “عالم أنثروبولوجيا” للإشراف على التلاعب. بينما وقعت مهمّة التنفيذ على متعاقدين عدة، بمن فيهم ضباط سابقون في وكالة الاستخبارات البريطانية “MI6″، وذكر صفة “سابق” هنا ضرورية لإنكار كل المسؤولية إذا فشلت العملية. وللاقتراب من أرض المعركة تمّ فتح ثلاثة مكاتب مخصّصة من قبل مقاولي الـ MI6 في إسطنبول وريهانلي (تركيا) وعمان (الأردن)، بينما تعمل وكالة الاستخبارات المركزية من ألمانيا.
بدأت هذه العملية من قضية الأسلحة الكيماوية في صيف عام 2013، عندما حذر مجلس العموم، الذي انطلت عليه البروباغندا خلال الحرب ضد العراق، وزارة الدفاع من نشر قوات بريطانية في سورية. لهذا السبب، تمّ تضخيم الميزانية الأولية لوزارة الخارجية وتحمّلها من قبل وزارة الدفاع البريطانية والوكالات الكندية والأمريكية، وبالتالي لم يعد لدى الجيش أية وسيلة أخرى للتدخل. وتمّ وضعها تحت قيادة الضابط MI6 جوناثان ألين، الذي أصبح الرجل الثاني في الوفد الدبلوماسي البريطاني لدى مجلس الأمن في الأمم المتحدة. ومن ثم سيتمّ تقديم العملية التي ستنفّذها جهات الاتصالات والإستراتيجيات المبتكرة كشراكة تجارية دون ارتباط مع سلطات المملكة المتحدة. حينها لم يشعر السوريون، الذين تمّ تجنيدهم في هذه العملية، أنهم يخونون بلدهم، ولكن لمجرد العثور على فرصة لكسب المال من أجل البقاء على الرغم من الحرب لأن الأجر المدفوع كان مغرياً.
كان نظام “الصحفيين المواطنين” اقتصادياً جداً مقارنة بـ 500،000 جنيه إسترليني التي تدفعها شهرياً من الميزانية البريطانية، وللعثور على “معلومات” أو “أدلة” تشهد على “قمع النظام ضد شعبه”، تمّ إرسال هذه المواد من الصور ومقاطع الفيديو بعد فرزها من قبل الاستخبارات البريطانية وتوزيعها إلى بي بي سي، سكاي نيوز، السي ان ان، الجزيرة والعربية، وهي المحطات التي تواطأت بشكل كامل مع الجوقة الغربية وأدواتها في الداخل من خلال إطلاق تغطية إعلامية مضلّلة للأحداث اليومية، في انتهاك لقرارات الأمم المتحدة التي تحظر البروباغندا الحربية. فيما تعيّن على “المتعاونين السوريين” من “شهود عيان وناشطين حقوقيين” الموافقة كتابياً على عدم الكشف عن هويتهم، ما لم يتمّ التصريح بذلك صراحة، وعدم الكشف عن روابطهم بأية شركة أو جهة خارجية، إذ أرادت لندن تغييراً في موقف السكان لمصلحة “المعتدلين” بدلاً من “المتطرفين”.
كما أشار عالم الأنثروبولوجيا الذي أشرف على البرنامج إلى الحاجة لإنشاء خدمات طوارئ على الأرض (الشرطة الحرة والخوذات البيضاء التي أشرف على تشكيلها الضابط السابق في الاستخبارات البريطانية MI6، جيمس لو ميسورييه)، ليس من أجل مساعدة السكان وإنما لمنحهم الثقة في المؤسسات القادمة بمجرد “تحقيق هدفهم بتغيير السلطة”.
ويضيف ميسان: إن هذه العملية فشلت بسبب الخلاف مع واشنطن، وذلك عندما تحالفت واشنطن مع تنظيم “داعش” لتدمير الدولة السورية، وإنشاء “كردستان الحرة” مع حزب العمال الكردستاني التركي وحزب العمال الكردستاني العراقي، عندها أدرك البريطانيون أنها لم تعد حربهم فقرروا الانسحاب.
ووفقاً لوثائق إيان كوبين، قام مقاولو MI6 أيضاً بتدريب متحدثين رسميين باسم المعارضة السورية، وطوروا حسابات على الشبكات الاجتماعية ومكاتب صحفية منظمة تعمل على مدار الساعة.
ثم يختم: كانت المكاتب الصحفية تهدف إلى ربط المتحدثين باسم المعارضة السورية بالصحفيين الغربيين وإطلاعهم عليها قبل إجراء المقابلات. بهذه الطريقة، كانت الصحافة الغربية تؤمن الاحتفاظ بمعلوماتها من مصادر “مستقلة” وبتكلفة منخفضة. فإذا كانت في البداية جميع وسائل الإعلام الدولية أرسلت، خلال مرحلة زعزعة الاستقرار (حتى منتصف عام 2012) مراسلين لها إلى الميدان (الذي تلاعب به البريطانيون)، فلا يوجد أيّ منهم على الإطلاق اليوم. لقد اعتاد الغربيون على تصديق وكالة أنباء MI6 مع “الإخوان المسلمين” في لندن أي “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، الذي يديره رامي عبد الرحمن، رغم أنه لا يمتلك الوسائل لمعرفة ما يجري على أرض الواقع من الأحداث التي يزعم تغطيتها!.