أخبارصحيفة البعث

مأثرة أسياد المقاومة في سراقب

 

د. إبراهيم علوش

شتان ما بين أن تكون “حليفاً” للطرف الأمريكي – الصهيوني، فيفرض عليك ذلك “الحليف” أن تتبع له وتخضع، ويأخذ منك ويأخذ، كما مازالت تفعل إدارة ترامب مع حكام دول الخليج العربي، ليخذلك بعدها في كل مفصل حساس، بعد أن يكون قد ابتزك مالياً وسياسياً، وأدخلك في دوامة الديون، وفرض عليك التطبيع مع العدو الصهيوني، وبعد أن يكون قد لوّث سيادتك الوطنية وقرارك السياسي، وبالأخص، بعد أن يكون قد عرّض استقرارك للخطر، كما في حالة اعتراف إدارة ترامب بالسيادة الصهيونية الكاملة على القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية..
نقول شتان ما بين ذلك وما بين أن تكون حليفاً في محور المقاومة على قاعدة وحدة المبادئ والهدف، فيقدم لك حليفك ويقدم، ويقف معك في الملمات، ويقاتل وينزف ويستشهد معك، وينتصر بدعمك له، كما دعمت سوريةُ المقاومةَ في لبنان عام 2000 و2006، وتنتصر بدعمه لك، كما فعل أبطال حزب الله من القصير إلى سراقب.
على النقيض من طعنات الجحود التي تلقتها سورية في حالات أخرى، قدمت سورية الخير، في هذه الحالة بالذات، فلاقت خيراً وفيراً، إذ لولا دعم سورية للمقاومة في لبنان في مواجهة العدو الصهيوني، لما وجدَت حليفاً مخلصاً وكفؤاً وحكيماً يدرك جيداً أن محاولة إسقاط سورية تعني محاصرته من الخلف وشطب عمقه الاستراتيجي، الممتد إلى قلب كل عربي مخلص وعقله في النهاية، لا سيما بعد أن تحوّلَ حزب الله إلى عامل ردعٍ إقليميٍ، لا لبنانيٍ فحسب، في مواجهة العدو الصهيوني من جهة، والعدو الإرهابي التكفيري من جهةٍ أخرى، وكلا العدوين وجهٌ لعملة واحدة على أية حال، سواءٌ أدرك ذلك مَن ضلت قلوبهم في متاهات الخطاب الطائفي الأجرب أم لم يدركوه.
من البديهي أن الحلفاء هم أطرافٌ متعددة، لا طرفٌ واحد، ولذا من الطبيعي أن توجد بينهم فروق أو اختلافات، وهي غير الخلافات، والاختلاف سنة الله في الخلق والخليقة، وهو موجودٌ في المؤسسة والعائلة الواحدة، لكن من مميزات حلف محور المقاومة قدرته على رص الصفوف بما يحوّل الاختلاف إلى تنوع، بدلاً من تحويله إلى تنازع، ومثل تلك الميزة تستند لا محالة إلى حكمة قياداته وخُلُقِهم وسعة أفقهم الكبيرة، من بيروت إلى دمشق إلى طهران.
تلك الميزة هي التي حوّلت محور المقاومة إلى كتلة صلبة أكثر تماسكاً وانسجاماً بعشرات المرات من أشتات الدول والحركات والجماعات الإرهابية والتكفيرية والمأجورة ورعاتها الغربيين والخليجيين والأتراك والصهاينة بأجنداتهم المتضاربة وتنازعهم على “الصيدة” كما قال حمد بن جاسم. ولا نبالغ إذا قلنا إن تماسك محور المقاومة هو أحد أهم عناصر القوة الاستراتيجية لذلك المحور عموماً، ولسورية خصوصاً، في مواجهة الحرب العالمية والإقليمية العظمى التي ما برحت تواجهها سورية، وهي حرب ليست في جوهرها إلا حرب مع محور أصدقاء الكيان الصهيوني.
ما أنجزه أبطال لواء الرضوان، القوات الخاصة لحزب الله، من استعادة لمدينة سراقب في بداية شهر آذار الجاري، فضلاً عن أهميته الاستراتيجية في كسر المخطط التركي في إدلب بالسيطرة على عقدة اتصال طريق أم-5 وطريق أم-4، أي طريق دمشق – حلب، وحلب – اللاذقية، عند تقاطعٍ حيوي يقع خارج مناطق “خفض التوتر” في عمق أوجار مناطق سيطرة العصابات الإرهابية التكفيرية والحشود التركية الضخمة، من دون غطاء جوي، لا بل بالرغم من المسيرات التركية صهيونية التصميم في الأجواء، نقول إن مثل ذلك الإنجاز، فضلاً عن أهميته العسكرية والسياسية المباشرة، بث رسالةً حول كفاءة مقاتلي لواء الرضوان وقدرات الحزب القتالية ما من شكٍ في أنها أرسلت قشعريرةً مطولة بالاتجاهين عبر أعناق القيادات العسكرية العليا لحلف أصدقاء الكيان الصهيوني، وفي هيئة الأركان الصهيونية ذاتها..
ذلك أن من يملك القدرة على تحويل القوات الخاصة التركية وعتاة التكفيريين، خلال بضع ساعات في جوف الليل، إلى دمىً عمياء لـ “تمرين تدريبي” لقوات الرضوان بالرماية الحية، مع تنسيق أداء مختلف أنواع الأسلحة والوحدات العسكرية المشاركة في سيمفونية نارية محكمة تكشف بساطة انسيابها، على صعوبة تنفيذها، عن مدى تمكُّن الفرقة العسكرية التي عزفتها من موسيقاها.. نقول إن من يملك مثل تلك الكفاءة الفذة لن يصعُب عليه كثيراً أن يعزف هذه السيمفونية الرائعة مجدداً في الجليل العربي الفلسطيني المحتل، أو حيثما يوجد مكانٌ مؤهلٌ لها على مسرح العمليات الواسع بين محور المقاومة من جهة، ومحور أصدقاء الكيان الصهيوني من جهةٍ أخرى.
كذلك يكشف بحثٌ مكثفٌ في وسائل إعلام المقاومة عن تلك الوقيعة، جرياً على عادة حزب الله في غشيان الوغى والعفة عند المغنم، أن الحزب لم يستعرض قدراته وبطولاته فيها أو في غيرها، وأنه انسحب بعد تحقيق أهدافه بذات السلاسة التي دخل فيها سراقب، بلا ضجيج ولا صرير بابٍ، وشتان ما بين فروسية عنترة والعنتريات الجوفاء، والمنتِج والمقاتِل جائزته ما ينجزه لا ما يدعيه، فهو يترك لله وللصادقين الأوفياء الذين يقدرون العمل الصادق الوفي حق قدره أن يقولوا كلمة الحق، ذلك أن الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم أرباب الوعد الصادق، وسورية لن تنساهم ولا فلسطين، ولن ينساهم شريفٌ من شرفاء الأمة العربية ما دام صادقاً مع ذاته قبل أن يصدُق معهم.
الجيش العربي السوري، بمساعدة حلفائه الصادقين الذين لا يتغيرون ولا يتلونون، هو صانع النصر الكبير الذي وضعت سورية قدمها المظفرة على عتبة بوابته الذهبية، وهو الذي حمل عبء المعارك، قبل القصير عام 2013 وبعدها، وقبل دخول القوات الجوية الروسية على خط المعركة في مواجهة ائتلاف دولي وإقليمي كبير في شهر أيلول عام 2015، وبعد دخول القوات الجوية الروسية على الخط، وحماة الديار هم الذين ما يزالون يدفعون الثمن الأكبر جهداً وتضحيةً ودماء في الحرب، وهذا طبيعي لأن المعارك تجري على أرض سورية، ولكن لا بد أيضاً من كلمة وفاء لأبطال حزب الله بالذات، وكذلك لأبطال لواء القدس، وكل الفصائل والمجموعات التي وقفت ميدانياً وسياسياً مع سورية، وهي كثيرة، واعتذر مسبقاً على عدم تعدادها كلها، وكلها موضع احترام وتقدير، إنما في معرض الحديث عن إنجاز حزب الله النوعي في سراقب، لا بد من التنويه بكل من ضحى وقاتل واستشهد من لبنانيين وفلسطينيين وعرب وإيرانيين (مع التذكير بأن المشاركة الإيرانية استشارية الطابع)، ولننتبه إلى أن من يقاتلون إلى جانب سورية يستشهد خيرة شبابهم وقياداتهم في الميدان، إلى جانب أبطال الجيش العربي السوري والقوات الرديفة…
ولينتبه المنساقون من العرب في حلف محور أصدقاء الكيان الصهيوني إلى أن رعاتهم يتعاملون معهم كحطبٍ ويلقون بهم للنيران، وأنهم لا يحترمونهم، ولا يلتزمون بالعهود الكثيرة التي يقطعونها لهم، وإلى أن محور المقاومة هو الذي يحاربه العدو الصهيوني ويستهدفه سياسياً وعسكرياً وأمنياً، لمن ما تزال مقاومة العدو الصهيوني تعني له شيئاً، ولينتبه المنساقون خلف محور أصدقاء الكيان الصهيوني من العرب أخيراً إلى أن خريطة الوطن العربي لم تتغير، أما خريطة المقاومة ومحورها فقد اتسعت كثيراً في السنوات الفائتة، وليست سراقب إلا آخر ما اتسع فيها.