“لحن الغريب” صوت الماء والنار مضرمة في “بيدر فواصل”
يأتي الشعر من عوالم بعيدة، عوالم تتكاثف عبر حساسية مختلفة ولغة مصقلة وثقافة تأخذ بالقصيدة إلى أمداء جديدة وأمام الحامل لهذه العوامل\ اللغة\ فإن الشاعر يبحث في البعد الآخر للكلمة ليشكل لغة سرية جديدة هي لغة الصورة إذ ينسج ما بين تفاصيلها انفعالاته الداخلية وأفكاره ورؤيته التي تطيح بالاعتيادي والرتيب.
والأنثى التي تكتب الشعر تزيد على الكلمة خصبها وعطاءها، تمنح الصور الشعرية أصداء متباينة ومختلفة لتُدخل المتلقي في عاصفتها الشعورية حتى إذا ما انتهى من القصيدة أدرك البلل الذي أصابه من دمعها أو ماء ينابيعها المتفجرة في صمت الدهشة.
” لحن الغريب” مجموعة شعرية صادرة عن دار التكوين للشاعرة طهران صارم تقدم فيها عدة مواضيع يغلب عليها الوجداني إذ تكتب الشاعرة ذاتها بكل رهافة محولة تلك الصراعات الداخلية والانفعالات الحسية التي تعيشها إلى نصوص شعرية قصيرة: في عين الماء/ ثمة لونان يتصارعان/ أزرق عميق بعيد../ وأخضر قريب.. قريب/ وما بينهما لون التراب/ يحتضن عين الماء.
وفي قصيدتها “لحن الغريب” التي حملت عنوان المجموعة نقرأ نصاً مفعماً بالرمزية، إنه الشعر القصة أو الحكاية حيث تفتتح القصيدة بفعل الإخبار (أخبروني البارحة) معيدة إياه في المقاطع التالية مضيفة إلى قصيدتها شخوصاً وأحداثا جاعلة من الصورة والحالة الشعرية حاملاً للحكاية التي أرادت أن تقدمها في ثوب الرمز: أخبروني البارحة/ عن سنونو وجهك/ يرف فوق غديرنا/ يخضر فوق حقولنا/ ويشعل القمر.
حقل المفردات الذي طوعته صارم جمعته من الطبيعة والريف مشكلة من تلك البساطة قصيدتها، جاعلة من المتخيل أبواباً مواربة، لنجد أنها جمعت مفردات الماء ووزعتها على نصوصها أفعالا و أسماء ما يعطي القصيدة حركة الماء المتجدد دائماً (يتهاطل، ينسرب، يغرقني، يرشح، نهر، بركة، مطر، جدول).
استطاعت الشاعرة طهران من خلال نصوصها في هذه المجموعة أن تقدم قصيدة بأطوال مختلفة مما يدل على تفاوت الدفق الشعوري فما بين نصوص قصيرة تومض بالدهشة: كتب وصيته على الماء/ فنبتت سنابلها على وجه الأرض/ تأتي بعض النصوص الطويلة متكئة على الصور الشعرية والسرد الذي قد يُتعب القصيدة على حساب دهشة الخاتمة.
ومن مجموعتها “لحن الغريب” يأخذنا عنوان مجموعتها الثانية “بيدر فواصل” لوقفة تمعن فيما رمت إليه، والمعروف أن الفاصلة في علامات الترقيم هي لحظة صمت وانتقال من فكرة لفكرة فهل هي الحالة التي أرادتنا بها الشاعرة لنكون متأهبين أمام نارها وإسقاطاتها في هذه المجموعة فهي تضرم النار في أغلب نصوصها، تضرمها بكل رمزيتها ودلالاتها مشكلة من مفردات النار حقلاً متكاملاً (يصطلي، رماد، النار، دخان، هسيس..) كأنما تحاول صهر الحزن والفوضى المحيطة بها في بوتقة روحها لتكشف عن حزن ثمين تتأجج فيه مشاعر أنثى تقرأ ما يدور حولها بشفافية عالية فهي تقول: (للنار غواية/ لا يدركها إلا الشاعر.) (لا غواية لعري/ كعري النار) (حضورك.. نار تلعن ناراً/ ولا ماء).
جاءت نصوص مجموعتها الثانية بشكل عام قصيرة مدهشة كما نصوصها المُعنونة “فواصل” فهي تقدم مجموعة من الصور الشعرية المتكاملة، إنها المرأة العاشقة والأم التي تتقن استخدام المفردات الممزوجة بأمومتها الفطرية لتقدم ومضات شعرية فهي تخيط الطريق لتمحو المسافة وتهدهد الرعد لتصفو السماء: (كتبتك ما فيه الكفاية/ وكنت أخيط الطريق إليك/ لأمحو المسافة/ أهدهد نوم الرعد/ لتصفو سماؤك/ والآن../لك جنوبي ولي شمالك.) وفي مقطع آخر: (أغمز له تحية اليوم/ يرتبك الصباح../ وأضحك..أضحك/ من قلق الجواب.) ونقرأ في “أوراق” مجموعة من المقطوعات المميزة بأسلوبها الفلسفي ونهاياتها المفتوحة نحو الدهشة: (ينتحر البحر كل يوم على الشطآن../ لا يكف عن تعذيب نفسه../ منذ ابتلع حوريته) (أعلّق نيتي/ في خابية العمر/ هناك../ على جدار الشمس/ أنتظر وجهك).
تقدم مجموعة “بيدر فواصل” نَفَساً شعرياً آخر للشاعرة وروحاً مختلفة من خلال أسلوبيتها الجديدة ونصها الوجيز، هناك الكثير من المقاطع التي تدفعك للتوقف وإعادة القراءة لتستمتع أكثر فأكثر بتلك الومضات التي تنم عن روح شفافة مرهفة.
المجموعتان الشعريتان تكتنزان بالإبداع والتفرد الذي يسعى إليه كل شاعر من خلال ترك بصمته الخاصة على جسد القصيدة كما يمكننا أن نلاحظ بوضوح تغير مسار النصوص لدى الشاعرة من نصوص طويلة في “لحن الغريب” إلى فلاشات شعرية ونصوص وجيزة باتت تغلب عند الكثير من الشعراء.
خضر مجر