الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مذكرات مواطنة “محجورة”!؟

 

د. نهلة عيسى

أتصل بالأصدقاء سائلة: كيف الحال؟ فيأتيني الرد كطلقة مدفع: قرف! وبحماقتي المعتادة أسير إلى حتف صبري، مجيبة: “بدها طولة بال”، فتنهمر فوق رأسي الكلمات طلقات: بال!؟ أي بال؟ والعيشة وِبال، والبصل صار له شأن، والخبز أصبح بالرغيف، والأسعار طيور كاسرة مجنحة، وأصحاب القرار عاجزون عن رتق الحال، يجربون ويبدلون، ومقاسات معيشتنا باتت مطاطة بين المتوسط والصغير.. وكله ضيق، بالكاد يستر عورة، أو يخفي عوزاً..!

أتابع الحماقة، وأدعو في سري على نفسي بالصمم، وأرد قائلة: “بتهون.. انشالله”.. مرحلة وستمر! فيواصل أصدقائي القصف: عن أي مرحلة تتحدثين؟ هذه تسع سنين، لا يوم ولا شهر، وصبرنا صار “بالة”، وليس في الأفق حل، والصديق صار عدواً، والابن عبئاً، والجسد حقيبة هموم في مواجهة من لا يعرفون ما معنى ضمير؟ يا متفائلة، وأعرف أن “متفائلة” هنا شتيمة: هل لديك مسكن لأوجاع الكرامة!؟

أصمت، لأنني لا أملك جواباً، وألملم فتات الكلام، وأستنجد بالسخرية مهرباً من رد يشفي الغليل، وأقول: هذه أضغاث الحجر، استهدوا بالله، أكاد أضع في رأسي طلقة! فيردون بالتنهدات، ويقولون: ضعي في رأس الحاجة طلقة إن كنت تقدرين، وإلا كفي عن المكابرة، وسلام، فأرد السلام، وأقفل هاتفي كارهة نفسي، لأنني أعرف أن وجع الناس في بلادي حق، ولكني لا أملك دواءً له سوى الطبطبة!!

آه ما أقبح الطبطبة على كتف الميت، خاصة وأن السؤال “هل نحن موتى أم أننا أحياء” بات مشروعاً؟! وأرجو ألا يدهشكم السؤال، لأنه يؤرقني منذ تسع سنين في كل الأيام، وأنا أراقب ازدحامنا في الشوارع، تلاصقنا في الباصات، مراوحة أقدامنا أمام معارض الملابس، عبث أيدينا في بقايا الليرات، تسائلها: تراك كافية لبضعة سندويشات؟ ضحكاتنا، نكاتنا، والتدافع بالكتف على ركوب الميكروباصات للعودة إلى البيوت، كالحاملين جثامينهم فوق أكتافهم يستوقفون العابرين، يسألونهم عن طريق المدافن، فلا يردون السؤال، فيتابعون سيرهم خائبين نحو المنازل، يتمتمون في سرهم: كيف رجعنا المنازل حين قصدنا المقابر؟! تراها المنازل باتت قبوراً، أم أن الطريق في انكسارات الظلال.. اشتبه؟!

يؤرقني كل صباح هذا السؤال، لتبدأ الأحزان في داخلي على إيقاع المذياع عرض الصور، يمر بي كناسو الطرق واجمين كسرب إوز أسود، تأكلهم دوائر الغبار، فأذوب في مقعد السيارة وأتأمل العيون تحكي قصص البيوت المقابر، والرؤوس التي لا يسندها ربما إلا حواف القمصان، وغالباً عصي المقشات، فيفيض بي الكرب، ويمزق عن تجلدي الجلد، فأسند في الطريق الأشبه بمجلس الأموات، حطامي المنهار على ظهر مقعد السيارة، وأدعي أنني لا أرى!!

أحدق في إشارات المرور.. شرطي مرور يبدو حديث العهد بالوظيفة، يرفع يداً فتفزع يمامة، ويطلق صفارة فتتداخل السيارات، بل الحكايات، ببعضها بعضاً، كثوب مرقع بالخرق الملونة، ملتبس إلى حد السخرية، ومثقل بالروايات الحزينة الختام، ومملوء بقصص العائدين من الحرب بلا وسام!! وليتكم تعرفون كم أنا مهووسة بهذه القصص، إلى حد أنها باتت تشاركني غرفتي، شرفتي، مشجبي، سريري، طعامي، خيالي، تشاركني يومي كزميل سكن، تتلاشى ملامحه في سحب الدخان والكلام، ويربد وجهه إذا رأى في يدي كتاباً عن الحرب، أو عن السلام، فيندفع إلى حضني كحمامة مرتاعة، لاهثة.. تلتقط الأنفاس، ثم يخبرني: لماذا تعاشرين كتب الحرب والجوع، ألم تشبعي رعباً، ألم يتحجر قلبك من أناشيد الموت تتلى كالصلوات الخمس في كل بيت في المدينة؟! متى يا حزينة.. متى ستعرفين راحة السكينة!؟

قصص الحجر والحصار تحوم في غرفتي، تعبر أشيائي إلى الصور المعلقة، تبحث ربما عن حلم لم يندثر، عن صبايا، وأشجار، ورسائل عشق مخبأة في أكمام القمصان، تنتقل من يد إلى يد في السلامات التي تبدو عابرة ، فيسكت التلفاز عن موجز الأنباء.. آه ما أجمل الصمت حين يصبح الصوت عدواً للحياة!! وما أجمل الخيبة عندما تكون الخيبة مجرد مقطوعة بائسة يتلوها معلم في الصف: ستبقى السنابل، ستبقى البلابل تغرد في أرضنا الخضراء، فيسأل الصغار: ما معنى بلابل؟!