تشارلي شابلن.. المحارب!!
كُتب وقيل الكثير عن المبدع الكبير تشارلي شابلن (1889 – 1977)، والذي تصادف اليوم ذكرى ميلاده.. ميلاد الأسطورة الحاضرة بتفاصيلها، والعبقرية الفذة النادرة.. إنه أيقونة لا يخفت بريقها بتقادم السنين في عالم التمثيل والسينما، والفنان الأكثر شهرة في التاريخ، وصاحب المدرسة الفنية العريقة في فن التمثيل الإيمائي، إلا أن نجمه اللامع يكمن، حقيقة، في كونه كاتبا فذّا، و هو أيضا مخرج ومنتج، وكان لاجتماعه ككاتب ومخرج في العديد من أفلامه أن جعل دولا وإمبراطوريات عظمى تعاديه، فالفتى اللندني الذي قاسى ضروب القهر والحرمان، الفقر والتسلط، الحزن والجوع، لن ترحل عن عظامه تلك البرودة التي سكنتها إلى الأبد، وطبعت صاحبها بروح متمردة، حرة، ذكية، استطاعت أن تحول ذلك البؤس إلى عوالم من الضحك المحارب. الكوميديا التي قدمها شابلن في أفلامه، والتي أضحكت الكبار والصغار، لم تكن مجانية كما أنها ليست تهريجا، بل كانت أسلوبا ذكيا في تمرير الأفكار التي يحملها إلى الجمهور بعموم مستوياته الثقافية والاجتماعية.
عديدة هي الأفلام التي كتبها شابلن وأخرجها، والتي كان لها أثرها المدوي في الأوساط الاجتماعية والسياسية، خصوصا تلك التي هاجم فيها صنوف الظلم الاجتماعي الذي تمارسه فئات بعينها على باقي الناس، وبأساليب شيطانية تتخفى تحت الشعارات البراقة للعدالة والرفاهية والحرية، منها تلك التي استعبدت الناس بالكماليات؛ فمثلا هزم تشارلي شابلن البرجوازية وعظمتها بعمل سينمائي صامت “أضواء المدينة” (1931)، خرج به “تشارلي” على العالم وأبهره بعد ثلاث سنوات من انطلاق السينما الناطقة، تلك التي لم يعتبرها تشارلي بداية أنها سينما.. وهكذا خسر هذا الفن فن الإيماء، أساس فن التمثيل. الفيلم يسخر بشدة من البرجوازية وعوالمها المزيفة، من أشخاصها والتناقض الكبير في شخصياتهم، ما يُظهرهم مصابين بانفصام بالشخصية، واحدة من مقولات الفيلم البارعة؛ كذلك يهزأ من المدنيّة الاجتماعية الباطلة، ومن النفاق الاجتماعي الذي تحياه “بلاد الحرية/ العدالة/ الإنسانية”، ومن قيمها الكاذبة، فالمدينة التي تعد بالسلام والرفاهية حسب اللافتة التي تظهر في أول الفيلم، هي مدينة قاسية لا ترحم، والناس فيها في حالة صراع دائم مع الحياة من أجل الكسب.. حتى الرمزية الخاصة بالسيف الذي يحمله المحارب في النصب الذي يرمز للرخاء والسلام ، والذي تحتفل به المدينة، يتحول إلى “خازوق” يخترق بنطال شارلي كرمز للسخرية من الحروب.
كتب تشارلي الفيلم وأخرجه وأنتجه ولعب فيه الدور الرئيسي. وإلى جانبه قدمت ببراعة فيرجينيا تشيرل الشخصية منبع الحبكة، والتي يُحكى أنه كمخرج خاض رحلة بحث طويلة عن ممثلة مناسبة للدور الخطير، صبية جميلة بريئة وعمياء، الدور الذي تقدمت له أهم ممثلات ذلك الزمان، ظل عصيا على التحقيق حتى التقى تشارلي بـ فيرجينيا، وكان أن أذهلت وما تزال تذهل العالم بالأداء الذي جعلته بمثابة مدرسة في فن الإيماء، وبهذا يُقدم هذا الفنان الكبير درسا في أصول انتقاء الممثل، فلن تكون للواسطة ولا غيرها من الأساليب التي تُسند من خلالها الأدوار في بعض الدراما المحلية إلى هذه الممثلة أو ذاك الفنان، أي تأثير على قراره كمخرج يريد لعمله أن يكون كاملا . يُعتبر أضواء المدينة من أهم أفلام شابلن التي عاد بها إلى الميلودراما والنقد الاجتماعي اللاذع، مؤكدا فيه عداوته للسلطة وأرباب العمل والبرجوازية برمزية بارعة، الفيلم اعتبره العديد من النقاد والسياسيين أنه يقوم بتشويه صورة البرجوازية ويفضح هشاشة مبادئها.
ككاتب أصيل لم يكتف تشارلي شابلن بنتاجه الفكري وحده ليكون مصدرا لأعماله السينمائية، لذا فإنه سوف يتجه إلى رمز من رموز المسرح العالمي: هنريك إبسن (1828 – 1906) عرّاب المسرح الحديث، صاحب الأعمال المسرحية المعروفة بنقدها للواقع وسخريتها من الفروق الطبقية والظلم الاجتماعي. وعن واحدة من أهم أعماله المسرحية الناقدة “عدو الشعب”، سيأخذ شارلي قصة فيلمه “مسيو فريدو” (1947)، والذي سيكون بداية مرحلة علاقة شارلي مع المتاعب التي “ستنكشها” له المخابرات الأمريكية، والذي ترافق عرضه مع خروج مظاهرات ضد الظلم والاستبداد، حتى أنه تم اتهام “شارلي” بتحقير الجيش الأمريكي، والفيلم يحكي قصة السيد فريدو، المصرفي الذي أمضى حياته يتنفس رائحة الأوراق النقدية، القاتل واللص المخملي، صاحب الحياة المزيفة والقائمة على الكذب والادعاء، إنه عبارة عن ثياب فخمة يرتديها دود الخطايا السبع، وهكذا سوف يقوم تشارلي برسم تفاصيل هذه الشخصية ببراعة محملا إياها كل مقولاته عن نمط الحياة التي سادت عقب الحرب العالمية الثانية في أمريكا، والتي سبقتها فاجعتان إنسانيتان لم يشهد التاريخ أفظع منهما، تدمير هيروشيما ونكازاكي قبل عرض الفيلم بعامين، فالرفاهية التي نعمت بها الولايات المتحدة الأمريكية، جاءت على الأجساد المحروقة لأطفال المدينتين المفجوعتين، وما السيد فريدو وحياته الفاسدة وما آلت إليه نتائجها، إلا تعبير لا لبس فيه عن الاحتقار الذي يكنه شارلي شابلن للحقد الأمريكي المغطى بالشعارات الإنسانية الخالية من أي قيمة.
معظم أفلام تشارلي شابلن اعتمدت الكوميديا السوداء لفضح الرياء العالمي الذي تنتهجه السياسات الاستعمارية في تعاملها مع شعوب العالم، منها فيلم “المهاجر” (1917)، ويتناول الفيلم رحلة اللجوء من أوروبا إلى أميركا، كاشفا عن تعامل السلطات الأميركية القاسي مع الهاربين من جحيم الحرب العالمية، أيضا فيلم “أزمنة حديثة” (1936) وهو آخر أفلامه الصامتة، انتقد من خلاله استغلال المصانع والشركات الكبرى للعمال، وأكثر ما ميز الفيلم هو بعض المشاهد العبقرية بحق والسابقة لزمانها، كمشهد آلة إطعام العاملين السريعة، ومشهد الشاشة العملاقة التي يراقب بها مدير المصنع عماله، المشهد الذي يُعتقد أنه ألهم الروائي البريطاني جورج أورويل شخصية “الأخ الأكبر” في رواية “1984” التي نشرت في سنة 1949.
تمّام علي بركات