دراساتصحيفة البعث

الجلاء : نضال شعب .. وحرية وطن

إبراهيم أحمد

 

يُمثّل الجلاء إحدى أهم المحطات المضيئة في تاريخ سورية النضالي، إذ تُعتبر تجارب النضال الوطني التحرري أبرز وأعمق التجارب وأكثرها رمزية ودروساً، بل وأكثر المنعطفات حسماً في صوغ تواصلها ومستقبلها، وفي تحديد هوية هذا التواصل، وذاك المستقبل. وإذا كان جلاء المستعمر الفرنسي عن أرض سورية العربية هو بداية انتصارات شعبنا على أعداء الأمة، فإنه في واقع الأمر قد أسّس لمرحلة جديدة من وعي الذات ووعي الآخر، إذ كبرت الانتصارات في وجدان أبناء الوطن وتجذّرت في الأرض التي رويت بدماء الشهداء الطاهرة لتثمر وطناً قوياً منيعاً، ووحدة وطنية فريدة،  ما أثبت أن شعبنا أصيل بموقعه التاريخي الجغرافي وحضارته العريقة الراسخة الجذور.

في السابع عشر من نيسان عام 1946، حققّ شعب سورية إرادته في الحرية والاستقلال، وكان جلاء آخر جندي فرنسي مستعمر عن أرض الوطن، لتبدأ سورية منذ ذلك اليوم نقلة جديدة من الكفاح والبناء على طريق صيانة الجلاء والدفاع عن الأرض والحقوق العربية، وتعزيز بناء الوطن على مختلف الصعد. فكان ذلك اليوم النقطة الأساسية التاريخية التي رسّخت أركان سورية الحديثة، والبداية لانطلاق المد الثوري والمقاومات والتضحيات السورية والعربية في معارك العز والبطولة في التصدي لمؤامرات أعداء الأمة ومشاريعهم في المنطقة، وأرست جسور عبور إلى مرحلة جديدة أثبتت للعالم أن راية سورية عالية خفّاقة يلوّنها فجر الحرية ويحرسها زند الفداء.

السابع عشر من نيسان يوم عظيم في تاريخ سورية المعاصر حقق فيه شعب سورية استقلاله، وانتزع حريته التي كان قد سرقها منه المستعمر الفرنسي، فكان الجلاء عن أرضنا مُعمّداً بدم الشهداء، مرصعّاً ببطولاتهم وتضحياتهم، وجاء ترجمة فعلية لروح التضامن والوحدة الوطنية التي افشلت كل محاولات المستعمر. فلم يكن الجلاء عن أرض سورية هبة ولا عطاء من قبل المستعمر، بل صنعه أبناء سورية الذين قدّموا دماءهم الزكية من أجل الوطن، فجاء تتويجاً لكفاح طويل استمر طيلة وجود المحتل الفرنسي، وفي مواجهة المخططات الاستعمارية الرامية إلى تقطيع أوصال الوطن العربي، واقتطاع أجزاء منه، وتكريس التجزئة التي نتجت عن اتفاقية ” سايكس – بيكو ” التي وضعت سورية تحت  نفوذ الانتداب الفرنسي، لكن ما إن وطئت أقدام فرنسا أرض الوطن حتى تحوّلت سورية إلى كتلة ملتهبة تحرق الطامعين بخيراتها، واستعرت معركة الحرية وتألقت البطولة في أبهى صورها، وعمّت الثورات ربوع سورية، فمن ثورة الساحل بقيادة المجاهد الشيخ صالح العلي إلى ثورة المنطقة الشمالية بقيادة الزعيم إبراهيم هنانو، إلى ثورة الدنادشة، وثورة البطل فوزي القاوقجي في المنطقة الوسطى، لتعانق الملحمة البطولية التي شهدتها دمشق وغوطتها بقيادة المجاهد حسن الخراط ومحمد الاشمر، مع ثورة جبل العرب بقيادة المجاهد الكبير سلطان باشا الأطرش، حيث تحوّل هذا الجبل إلى كتلة نارية ملتهبة تلفظ حممها المنصهرة ضد المحتل الطامع الذي يبغي تدنيس الكرامة ، وتلاقت هذه الثورات أيضاً مع ثورة حوران التي شملت القرى والسهول، ونسّقت عملياتها الفدائية ضد الفرنسيين مع ابن الجولان الشهيد  البطل أحمد مريود، ومع ثورة منطقة الفرات والجزيرة تعبيراً عن وحدة الدم والأرض والمصير والهدف. فلم تستطع طائرات ومدافع المحتل الفرنسي إخماد نيران الثورات الشعبية التي تأججت في كل أنحاء سورية، ولم تفلح محاولات الفرنسيين في ضرب الوحدة الوطنية لشعبنا العربي السوري من خلال العمل على تفتيت سورية إلى دويلات على أساس ” فرّق تسد ” بهدف إضعاف روح المقاومة، وبرزت في سورية بأسرها مظاهر الإرادة الحرة والتصميم ومعالم صدق الانتماء الوطني والوحدة الوطنية كسلاح فعّال في مقاومة المحتلين، الأمر الذي فوّت الفرصة على المستعمرين في مسعاهم لضرب الوحدة الوطنية لشعبنا العربي السوري من خلال تفتيت سورية إلى دويلات ذات طابع جغرافي وطائفي في محاولة لإضعاف روح المقاومة وتحويل المسألة إلى اقتتال ونزاع بين هذه الدويلات. لكن ثوار سورية رفعوا شعاراً ” إننا سوريون بالولادة، لكننا قوميون بالإرادة، وسنحمل السلاح ونواصل النضال حتى يرحل آخر جندي فرنسي عن أرض الوطن” . بيد أن  بطش المستعمر الفرنسي لم يتورع عن قصف وتدمير وحرق المدارس والمشافي والبرلمان بطائراته ومدافعه جعل لهيب الثورة يزداد اشتعالاً وألقاً. لكن المحتل الفرنسي فشل بإخضاع السوريين الذين كشفوا زيف ألاعيبه في منحهم استقلال شكلي لايلبّي طموحهم الوطني من حيث وضع دستور للبلاد وعقد جمعية تأسيسية. إلا أن جذوة المقاومة لم تهدأ ولم تتوقف مطالبة الشعب بالاستقلال التام وجلاء الاستعمار الفرنسي عن أرض سورية، وكان إعلان الإضراب الستيني في بداية عام 1936 بهدف إعادة الحياة الدستورية للبلاد.

أمام هذا الإصرار والنضال المستمر ضد المستعمر الفرنسي تأكد أن لا بقاء له في سورية وأن عليه الرحيل، فكان جلاء المستعمر الفرنسي وتحقيق الاستقلال الوطني الذي عمدّه الشهداء بالدماء والتضحيات التي ساهمت في رسم استراتيجية عامة للسياسة السورية إقليمياً ودولياً، فقد حرصت سورية ورغم الضغوط والاغراءات على التمسك بمواقفها العروبية.

إن معاني الجلاء تتجدد على أرض الواقع وفي كل ركن من أركان سورية القوية المنيعة المدافعة عن الارض والحقوق بكل قواها، يقول السيد الرئيس بشار الأسد:
” …. لكننا غير مستعدين للتفريط بالأرض، ولانقبل لسيادتنا أن تُمسّ، ولأننا مشتاقون لكي يعود الجولان كاملاً ويعود أهله إلى الوطن، وغير مستعدين للتفريط بالأرض، لأننا لا نقبل بها منقوصة أو على حساب السيادة الوطنية، ولأن الزمن مهما طال فإن هذه الأرض ستبقى لنا وستعود كاملة عاجلاً أم آجلاً”. واليوم كلنا أمل بجلاء جديد لدحر كل طامع وكل  مرتزق إرهابي تكفيري من وحوش هذا العصر جاء إلى سورية للنيل من شعبها وتاريخها وحضارتها، فكان شعب سورية وجيشها البطل الذي يخط الفصل الاخير من دحر العثمانيين الجدد ومرتزقتهم وأسيادهم الأمريكيين، بالمرصاد لهم من أجل أن تبقى سورية قوية عزيزة الجانب، رافعة رايات النصر دوماً. وستبقى راية الكرامة، راية الاستقلال خفاقة، ولن يرفرف في سماء سورية إلا علمها الوطني في ظل قيادة السيد الرئيس بشار الأسد.