كورونا يقصي الصحافة الورقية وينتصر لـ “الإلكتروني”
بات لزاما على الصحافة الإلكترونية اليوم أن تبتكر أساليب جديدة ومحتوى أكثر قدرة على الاستمرار وجذب ملايين المتصفحين والمتابعين والقرّاء، واستقطاب الأقلام الصحفية الجادة وتلك التي يمكن أن تحدث فارقا كبيرا في المادة الإعلامية بمختلف أنواعها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية، بعد أن انتصر وباء كورونا لها، وتمكّن مؤخرا من إقصاء الصحافة الورقية وتحييدها كليا، وقد تحتاج شهورا وسنوات لتتعافى وتعود إلى الانتشار والتوزيع.
أكثر من ثلاثة عقود وتزيد مضت على دخول الصحافة العربية، ومنها السورية، العالم الرقمي، لم تنفع فيها الحملات الترويجية أو تستطيع تغيير قناعات الأغلب الأعم من مقتني ومتابعي الصحف والمجلات والدوريات بنسختها الورقية المطبوعة، ليواكبوا الثورة التكنولوجية والتحولات العلمية والتقنية وانتشار وسائل الاتصال الذكية التي كان من بين خياراتها الإعلام الإلكتروني، أو حتى حضّهم على هذا الخيار الأسرع والأقل كلفة، إذ ظلوا أسرى الحنين إلى تقليد راسخ وطقس اجتماعي حبّب إليهم ملمس الورق وشغف تقليبه وربما رائحته، فضلا عما تتمتّع به الصحف الورقية –باعتقادهم- من مصداقية وثقة، والمتعة في مطالعة الأخبار الجديدة والتحقيقات الموضوعية العميقة والمواد الثقافية والسياسية والدراسات الفكرية والاقتصادية والترجمات التي يمكن قصّها وأرشفتها وحفظها لتكون مرجعا أو مصدرا في توثيق معلومة ما بعد مضي سنوات على نشرها والاحتفاظ بها.
لقد أثر وباء كورونا الذي تفشى في معظم بلدان العالم خلال الأشهر الأخيرة ونجح في تغيير أنماط حياة وسلوك شعوب وأمم بأكملها وحوّل عاداتها وتقاليدها الراسخة الموروثة باتجاهات قد تكون متعاكسة، وها هو يوجّه الناس جميعا في أربع جهات الأرض قسرا إلى ملايين المواقع الإلكترونية ومئات آلاف الصحف التي لجأت خلال العقود الأخيرة إلى إصدار نسخة إلكترونية (pdf) مترافقة مع نسختها الورقية، حتى لكأن هذا الخيار بات اليوم الخيار الوحيد بعد إيقاف الإصدارات الورقية المطبوعة في مختلف بلدان العالم، والخشية من أن تساهم في نقل عدوى الفيروس وانتشاره. لا يمكن الإنكار أن القرن الحادي والعشرين ساهم إلى حدّ كبير في المزاوجة بين التكنولوجيا والإعلام، وتعزيز حضور الصحافة الإلكترونية وزيادة الاهتمام بالمواقع الإخبارية على شبكة الانترنت كمصدر لمعرفة آخر الأخبار والمستجدات السياسية وربما الثقافية والاقتصادية والعلمية، كما لا يمكن الإنكار أيضا أن وسائل التواصل الاجتماعي قد لعبت دورا كبيرا في تقريب المسافة بين القارئ وكثير من وسائل الإعلام والصحف الإلكترونية في سورية والعالم العربي، وسرّع بعضها في إفهام مجتمعاتنا بضرورة الاقتناع بأن هذا الشكل من الصحافة، بقليل من المسؤولية والإيمان بأهمية الرسالة الإعلامية السامية، يمكن أن يقدم خطابا جادا ومعارف تنويرية جديدة وأخبارا وحقائق تاريخية لا تحتمل المبالغة والإفراط بالتشكيك فيها، فيما لو حصّنا أنفسنا بالمعلومات وتسلحنا بالثقافة التي تؤهلنا في فرز الخبر الموثوق من ذلك المزوّر أو الملفق المضلّل أو المتعارض – على سبيل المثال- مع ما نؤمن به من أفكار وعلوم تربوية وأخلاقية أو قناعات ورؤى سياسية وطنية أو قومية.
وعلى هذا وبعد أن قوّض كورونا خلال الآونة الأخيرة الصحافة المطبوعة وضيّق عليها وأنزلها عن عرشها، فقد أصبح لزاما –كما أسلفنا- على الصحف ووسائل الإعلام الإلكترونية أن تتدارك جملة المشكلات التي كانت تحدّ من عدد متابعيها ومتصفحي موادها المنشورة، وتجدّ في توسيع خياراتها، واستقطاب تلك النسبة من المقتنعين بأن الصحافة الورقية هي خيارهم الأوحد، وذلك من خلال تعزيز حضورها على الشبكة العنكبوتية وتبني مشروعات تحديثية ومحتوى إعلامي جاد متطور ومسؤول، والتركيز أكثر على مراعاة الدقة والمصداقية والموضوعية في نقل الخبر أو صناعته وتحريره وتقديمه بأفضل صورة، إضافة إلى التأكيد على الضوابط المهنية والأخلاقية والاجتماعية، وخلق نوافذ تفاعلية للقراء للتعبير عن آرائهم وبالتالي تقصي الأثر والمفعول الراجع وتقييم جودة المادة والمعلومة المنشورة، والتحرّر من خطاب الصحافة التقليدية في عرض الموضوعات واختيارها باتجاه تحديث المضمون اليومي والتغطيات الميدانية، وابتكار أشكال وتصميمات جديدة متميزة تشجّع القارئ والمتصفح على مواصلة ارتياد والتفاعل مع الشكل الراهن للصحافة، وإن تمكنّا فلتكن الصحيفة بأكثر من لغة حتى تصل إلى أكبر عدد من القراء في العالم، وفي الوقت نفسه إيجاد حلول تقنية تساعد على تخزين المادة الإعلامية المنشورة وأرشفتها وربطها بمواد ملحقة تماثل محتواها وعناوين أفكارها، وتوفير محركات بحث داخل الصحيفة الإلكترونية نفسها، وتقديم مواد سمعية وبصرية واستطلاعات وأفلام مصورة تحقق انتشارا أوسع لهذه الصحيفة أو ذلك الموقع الإخباري.
نجزمُ أن القواعد والأسس المشار إليها مطبّقة في كثير من الصحف الإلكترونية في سورية والوطن العربي والعالم، غير أن الخيارات التي فرضها وباء كورونا مؤخرا باتت ملحة تستدعي أن نلتفت أكثر إلى استثمار الفرصة والتنافس في ابتكار أساليب جديدة تجعلنا في أعلى سلم محركات البحث لدى الكثير من قراء ومتصفحي الصحافة الإلكترونية.
عمر محمد جمعة