عندَ الشهيد
د. نضال الصالح
الطفلةُ التي رمتِ الفتى بوردة، فارتمى الفتى عند درَج وردها، سرعانَ ما عاجلتِ الفتى بالأهزوجة: “زيّنوا المرجة”، وسرعانَ ما وجدَ الفتى روحه مترفةً بالوجْد، ثمّ يكمل الأهزوجة وعيناه تضيئان بالوجه البهاء أمامه: “جدايل جدايل، أصايل أصايل”، ثمّ سرعانَ ما الطفلة والفتى وجدا نفسيهما وهما يمتطيان صهوة غيمة تمضي بهما إلى كوكب بعيد، فوق صفحة الكوثر الذي تختالُ الأرضُ حول ضفّتيه بالنخيل والأعناب تترقرق كلمتان: “ماء الخلود”.
وكان الفتى يقرأ: “وفي السادس من أيّار سنة ست عشرة وتسعمئة وألف زفّت ساحتا البرج في بيروت والمرجة في دمشق أربعة عشر من الرجال إلى جنائن الخلود، بدعوى وضع خطة للاستقلال عن الدولة العثمانية، ولم يكد الضوء يجهر بنفسه، حتى اتشحت الشام بالحزن الجليل”. وكانت الطفلة تعدّد: “الزهراويّ. العظمُ. العسليّ. الجزائريّ. سلّوم. تللو. الشمعة. الإنكليزيّ”، وكان الفتى يستعيد ما كان قرأ: “وقضى السفّاح مقتولاً بعد نحو ست سنوات من تلك الليلة، وبعد أن كان نفى الكثير من أسر أولئك الرجال خارج البلاد، وصادر أموالهم وأملاكهم”.
وكانَ الفتى يدلفُ إلى أوّل الحكمة، وكانتِ الطفلةُ تودّع، أو تكاد، آخر الحكاية من سيرة القلب، وما بين الحكمة والسيرة كانَ الوردُ يغافلُ أبيضه الفتنة، فيزهو بفتنة أشدّ، بلون حبّ الرمّان، وكانت الطفلة تستعيدُ ما تحفظ من الشعر عن الشهادة والشهداء، ثمّ ترهف قلبها لتراتيل الخفق الذي دهمها على غفلة من جلّنارها، وتردّد ما كان عمر حمد، شهيد أيار، ردّد قبل أن يخنق حبل المشنقة صوته: “نحنُ أبناء الألى، شادوا مجداً وعُلا”.
وما يكاد الفضاء يضحك للصدى المنهمر من الجهات كلها، حتى يأخذ الفتى بقراءة بعض ما كانَ يتدفّق من ماء الخلود، الرجال الشرف، من الكواكبي الذي طاردته السلطات العثمانية إلى القاهرة، فدسّت له السم في الطعام. وبينما الطفلة تسند رأسها إلى صدر الفتى، وبينما الفتى يعابث جدائلها الذهب، أرهفا السمع معاً للصوت الذي انهمر من حيث لا يعرفان: وقال “أوتونابشتيم”: سأفتحُ لكَ يا جلجامش سراً خفياً. يوجد نبات مثل الشوك ينبت في المياه. إنه كالورد، شوكه يخزّ يديك، فإذا ما حصلتَ عليه وجدتَ الحياة الجديدة كلّما دهمك نذير الموت. وبعد أن حصل جلجامش على النبات، نبات الخلود، ونزل ليغتسل في ماء البركة، ولم تكد حيّة تشمّ رائحة النبات، حتى اختطفته، فجلس جلجامش يجهش بالبكاء.
الحكاية تضرمُ روحيّ الطفلة والفتى بالسؤال عن الطريق إلى الخلود، عمّا يحفظ لهما بقاءهما في ذلك الكوكب الذي مضت بهما الغيمة الحياة إليه، ثمّ من سماء تظلّهما تنزّلَ الجواب: عند الشهيد تلاقى الله والبشرُ.