متاهات لأرواح زافون في مقبرة الكتب المنسية
في زمن يتصف بالسرعة، وبأن تلقي المعلومة أصبح بحاجة إلى نوع من التحايل حتى لا تُمل القراءة ويصل القارئ إلى جوهر المادة المنشورة، وما فعله كارلوس زافون نوع من المغامرة، فبعد ثلاث روايات متصلات منفصلات “ظل الريح، لعبة الملاك، سجين السماء”، أعطانا نهاية تتحمل جرعة زائدة من الخيال والتشويق والغموض الذي يجعل القارئ أسير الصفحات التي بين يديه، فكان ختام سلسلة مقبرة الكتب المنسية الرواية التي حملت عنوان “متاهة الأرواح” للمترجم السوري معاوية عبد المجيد الذي أبدع كما في كل مرة في نقل هذه التحفة الأدبية إلى اللغة العربية.
رواية تتحدى المعقول في إثارتها، كاتب يجول بك حيث تعرج على كل الفصول السابقة في كل فصل جديد، نهاية لا تتوقعها، حيث يتضح من كان موته مؤكداً بأنه حي يرزق في مكان قريب.. متاهة من الألغاز، ألغاز من ذلك النوع الذي يشد القارئ ويبحر في صفحات الرواية من دون أن يشعر بالوقت أو يطرق بابه الملل، متاهة بمداخل متعددة تفضي إلى مداخل وحكايات أخرى.
يتعرف القارئ في ظل الريح الجزء الأول من السلسلة على دانيال سيمبري الذي تداخلت حياته ومصيره وأقداره مع ظل كاتب منسي ملعون بعد شغفه بحكايته هو خوليان كاركاس، وفي الجزء الثاني هناك كاتب ملعون آخر هو ديفيد مارتين الذي باع روحه كفاوست في لعبة مع الملاك ووقع لتأليف كتاب فدمر حياة كل من حوله، أما في الجزء الثالث فخصص الكاتب حكاية لواحد من أبطال روايته وأكثرها جدلاً واستمتاعاً في التعرف على شخصيته فيرمين دي توريس، سجين من سجناء السماء، سجناء الكلمة والأدب والسياسة في ظل نظام فاسد ديكتاتوري، وكيف هرب من السجن مقلداً طريقة الكونت مونت كريستو.
يقول الكاتب: “ليس للحكاية بداية أو نهاية إنما مجرد مداخل” ومن مداخله الكثيرة لم يرد في نهاية السلسلة أن يخرج القارئ من دون أن يترك بصمته محفورة في ذاكرته على مر الأيام، رواية لن يخرج القارئ أبداً من متاهة الأرواح تلك، بل ستتسلل تحت جلده ولن تفلته أبداً، في هذا الجزء قصة لا تختلف عما سبق، قصة عن الكتب، القراء والمؤلفين، الصداقة، الظلم، الحب، الهجر، الفقدان، الآباء الذين يعرفون كل الأجوبة في العالم، ومرة أخرى عن مدينة أرهقتها الحروب والفساد.
في رباعية زافون قام بربط العديد من الأنواع الأدبية – التاريخي، الرومانسي، الخيالي، البوليسي، والسياسي – أعطى صوراً مختلفة للدفن والموت: مقبرة تحت سطح البحر، جثث للهدم في فندق، حبس في زنزانة نتنة، ضحايا قتل محنط في متحف للشرطة. يعيدنا هذا الكتاب إلى برشلونة ويفتتح القصة مع دانيال وفيرمين، بالعودة إلى عام 1938، بمشهد درامي يمثل عودة فيرمين إلى برشلونة في مهمة لتسليم رسالة لزوج صديقته وابنتها أليثيا البالغة من العمر 9 سنوات، وعند وصوله إليهم يعلق في واحدة من سلسلة من الغارات الجوية على المدينة، فيصاب منزلهم وأثناء محاولة إنقاذ أليثيا، يضيع أحدهما الآخر، وتبدأ القصة التي سيتتبعها القارئ حتى حلها النهائي في عام 1992.
نجت أليثيا من القصف ولكن تبقى ذكرى القصف ملازمة لها من خلال الإصابة المؤلمة التي تترك وركاً محروقاً لن يندمل، بالإضافة إلى ذكرى غامضة للرجل الذي أنقذ حياتها وحلم حول مبنى مليء بالكتب.
تعمل لمدة عشرين عاماً تحت جناح لياندرو ولأتباعه السياسيين في مدريد، لكنها الآن تريد الخروج، فكان شرطه لتركها تتحرر من قبضته أن تعمل على قضية أخيرة وهي البحث عن وزير الثقافة المفقود ماوريسيو فايس، حيث كان آخر ظهور له في حفلة أقامها في قصره بعد أن دخل مكتبه شخص ما ترك له شيئاً من الماضي الذي لا يعرف حقيقته إلا هو فما هو هذا الشيء وما هي الأسرار التي تتعلق بالماضي؟!.
قضية ستأخذ أليثيا إلى عالم سفلي يكشف عن أعماق الإنسان غير الإنسانية، مظلمة، يائسة، عنيفة، قاتلة، مكان يملك ذاكرة مؤلمة من كثرة الفظاعات المرتكبة، التعذيب، القتل وعن سجلات لأطفال مسروقين.
فايس كان له ماض، إذ كان مسؤولاً عن سجن مونتويك سيىء السمعة، كانت له يد في زج الكثيرين في السجن، إعدامهم، إذلال ذويهم وأحبائهم، بل ودس السم في قهوة الأصدقاء السجناء بدم بارد، لم يكن ديفيد مارتين هو الكاتب الوحيد الذي قام بتعذيبه، بل هناك أيضاً فيكتور ماتيكس صاحب سلسلة “متاهة الأرواح” ببطلتها أرديانا التي ألفها على اسم ابنته.
في متاهة الأرواح لن نتعرف على إليثيا فقط، وإنما على شريكها الشرطي المقحم في التحقيقات بارجاس، الضابط الفاسد إيندايا، فيكتور ماتيكس الكاتب المنسي، ابنته أرديانا وغيرهم الكثير
لدى زافون طريقة للعب مع العواطف وتلاقي الخير بالشر، لا يخجل من عرض الحقائق القاسية، من فضح لفظائع الحرب، في هذه الملحمة الأدبية تتجمع الحياة البشرية هنا، هي قصة تتحدث عن الحرب ولكنها أيضاً قصة حب لمرونة الروح البشرية.
عُلا أحمد