التغيّر الاجتماعي ومصير العالم بعد كورونا
إعداد: إبراهيم أحمد
التغيّرات برمّتها في زمن جائحة كورونا وما بعدها حتماً ستطال التغيّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والأكاديمية على السواء، فالملف الاقتصادي والملف السياسي مرتبطان ببعضهما وربما سيحدث تغيّرات تقلب موازين التراتبية الدولية في هذا الشأن، وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية والتي ستطال كل شيء من عادات وتقاليد ومناسبات فرح وترح وكذلك السلوكيات الفردية والجماعية، كما ستطال التصرفات اليومية والانفعالات النفسية والاجتماعية.
ببساطة لأن الدروس المستفادة من جائحة كورونا هي من الأهمية بمكان لغايات التغيّر والتغيير في جوانبنا الاجتماعية نحو التأقلم مع مستجدات العصر والتطورات التي أساسها الحفاظ على الصحة العامة وأسس السلامة ومعاييرها درءاً لانتشار الوباء والفيروس والتحولات المستقبلية في هذا الشأن، ما يعني أن عنوان المرحلة المقبلة بعد كورونا سيكون حتماً قرب الأسرة وأفرادها من بعض ومحبتهم لبعض وتواصلهم وتعظيم القيم الأسرية من محبة واحترام ووفاء وتعاضد وتكافل وغيرها. بيد أن التباعد الاجتماعي الفيزيائي سيكون لكبح جماح الأمراض وعدوى الفيروسات عن طريق ترك المسافات الآمنة والعزل المنزلي وتغيير العادات التي تقتضي القرب المكاني والفيزيائي أثناء السلام واللقاء والمناسبات. وفي قادم الأيام بعد زمن كورونا ستختفي أو تقل الكثير من العادات التي اعتدنا عليها وفيها خطورة لنقل الفيروسات وحتى الأمراض بين الناس، والقرب المكاني من بعض وغيرها، فمعظم هذه العادات حتماً سيؤول إلى ثقافة عصرية جديدة تحقق الأمان الصحي لكل الناس فالتجمعات الكبيرة حتماً ستندثر إلى غير رجعة، خصوصاً في المباريات والطوابير العامة وغيرها. وهذه المواقع تعتبر من البؤر الساخنة والانشطارية كمراكز لنقل العدوى والوباء كنتيجة لتجمع الناس وعدم مراعاة المسافات الآمنة والتباعد الاجتماعي، وإن أقيمت هذه التجمعات ستكون وفق أسس التباعد الاجتماعي لغايات الحفاظ على صحة وسلامة الناس. وستنتشر ثقافات جديدة بين الناس جلها الحذر والتباعد الاجتماعي والمسافات الآمنة والطوابير وعدم التبذير والترشيد للاستهلاك والتكافل الاجتماعي وروحية العطاء والعمل الاجتماعي والتواصل الاجتماعي عن بُعد والإكثار من الاتصالات على حساب الزيارات والبريد الإلكتروني، ووسائل الرقمنة والانترنت والمشي دون مركبات وتجذير ثقافة الحاجة أم الاختراع وغيرها. جائحة كورونا ستغيّر الكثير من عاداتنا وتقاليدنا صوب التباعد الفيزيائي والمسافة الآمنة والرقمنة، وحتماً سنرى الأيام القادمة تحمل مثل هذه التغيّرات الاجتماعية باتجاه عالم اجتماعي جديد يعيش فيه الناس في الأسرة كأساس وما في المجتمع والمحيط يكون ثانوياً وعن بُعد، وسيسعى الناس لترشيد استهلاكهم وتوفير مالهم ووقتهم وجهدهم قدر المستطاع.
وعلى صعيد التعاملات الإنسانية فإن الأمر بعد كورونا لن يعود لما كان قبل كورونا، كما أن العديد من البشر سيتخلّون عن بعض عاداتهم اليومية في مقابل تطبيق نظرية التباعد الاجتماعي دون داع أو تهديد، ستتشكل اتجاهات جديدة لدى الإنسان نتيجة تعرضه لضغوط العُزلة الإجبارية، وعدم التحرر من المسؤولية المجتمعية، وستكون التعاملات في نطاق أكثر ضيقاً مما كان وأكثر حصراً مما بدا قبيل الأزمة الحالية.
إن أول ما سيتأثر به العالم ستكون العلاقات الاجتماعية وسلوكيات الأفراد، بينما سيكون مصيرها محتوم بالتغيّر والاتجاه نحو الضيق نوعاً ما، إلى جانب استعمال الخدمات الرقمية والتكنولوجيا، وسيتجه البشر إلى تطبيق نظريات التباعد الاجتماعي في نطاقات العمل والأسرة والممارسة اليومية. كما سنخرج من هذه الأزمة في مسير نحو مأرب حميد للتعافي من الملل والاكتئاب والركاكة التي عاشها الإنسان خلال الفترة الحالية.
فالعالم قبل كورونا لن يكون كما بعده، ستقاوم دول ويعتري التصدع دول، وستتعافى دول أخرى قبل قريناتها، وهذا كله تبعاً لآثار التضرر من الأزمة من حيث أعداد الوفيات والإصابات وحتى الإمكانات التي أُهدرت، ويبدو أن أولويات التعافي ستختلف أيضاً بين الدول. ولنا في تاريخ تعرض العالم للأزمات الاقتصادية والوبائية والعسكرية عِبر نستذكرها في أزمتنا الحالية رُبّما تخفف من وطأة الصدمة بعد مرور هذه الأزمة، ومن الممكن أيضاً أن نستذكر نظريات التعافي لبعض الدول بعد الحرب العالمية الثانية مثلاً، وكيف تعرضت هذه الدول للهزيمة والتدمير، وهي الآن في مقدمة الدول المتطورة. نظريات عديدة يمكن تحليلها وتفسيرها من خلال المنطق والتحليل العلمي المدروس والقائم على التجربة والتطبيق، فالعالم سيتأثر بشكل كبير جداً في محاور متعددة، ويمكن لأي شخص تخمينها بحُكم وجوده على قائمة الأحياء في هذا الكوكب.
وعلى صعيد السياسة يسود تصور أن وطأة التفكير في الإصلاحات السياسية قد يتلاشى بعد الأزمة، كما قد تتلاشى اهتمامات السياسيين والقادة نحو إعادة ترتيب أوطانهم وفقاً لأولويات التعرض لسيناريوهات أكثر سوءاً أو أشد حدة، فلن يفكر العالم بعد الأزمة في البحث عن قادة سياسيين بحجم ما سيكون مصير العالم محتوم بالاستعدادات الطبية كالقدرة على توفير أجهزة للتنفس الاصطناعي أو الاستعداد البحثي نحو الأمصال واللقاحات المحتملة للأوبئة الأكثر انتشاراً في العالم.
أما على الصعيد الدولي فستختل موازين القوى والتحالفات، كما ستتجه الدول إلى البحث عن معالجات للبنى التحتية التي فضحتها تداعيات هذه الجائحة التي فتكت بما يقرب من نصف مليون إنسان ويزيد. كما ستتلاشى العولمة تدريجياً نتيجة الانغلاق الحادث في الدول، وسيتجه العالم لصياغة سياسات جديدة نحو التكامل بين الدول في التكافل الصحي والاجتماعي وعقد بروتوكولات بين المؤسسات قائمة على تقديم الخدمات وليس احتكار السوق أو التوسع في الاقتصاديات الضخمة وسيطرة رأس المال.
سيكون مصير العالم كله بعد كورونا كمصير الطفل الوليد، لا يعلم عن مستقبله شيئاً سوى أنه سيعيش على ظهر البسيطة مُسيراً بأقدار تفوق طاقة العلم والتطور والتسليح والانفتاح، وسيكتب عليه مواجهتها ولو بالصبر والعُزلة، لتتلاشى اهتماماته بالمادة في مقابل الإنسانية وطباعها التي افتقدناها جميعاً، ولتظهر له اتجاهات أخرى أولى له أن يتبعها في مستقبله الغامض.