الحضور الأبوي!
ربط الأقوال بالأفعال ليس مهمة صعبة أو مستحيلة، ولكن للأسف نجدها عملية نادرة في الواقع الفعلي، حيث تتملّص الكثير من الجهات من وعودها، بل وتخفق في تنفيذ خطط عملها ومهامها الأساسية المدانة بوقائع الأسواق والحالة المعيشية، وبشكل يبرز انسحاب الجهات المعنية من مواقعها الرقابية، ويسلّط الضوء على العجز في تحقيق أي تقدم إيجابي. وفي المقابل، هناك حقيقة أخرى يجب ألا تغيب عن الأذهان تتعلق بمسؤولية الجميع عما يحدث، وضرورة التكاتف والتعاون في هذه الظروف المصيرية للوصول إلى ضفة الأمان.
لا شك أن الكثير من الوقائع الحياتية التي نعيش تفاصيلها على مدار الساعة تضعنا في مواجهة مباشرة مع أنفسنا، سواء كمواطنين نعاني ما نعانيه من ويلات الحرب والحصار، ولنا الكثير من المطالب المعيشية الخدمية، وفي الوقت ذاته نتحمّل العديد من المسؤوليات تجاه مجتمعنا وبلدنا ضمن حاضنة المواطنة، أو كإعلاميين لدينا الكثير من الهموم في ميادين العمل، وعلينا ما علينا من ملاحظات على الأداء والمهام المنوطة بنا في كشف الفساد، ونقل صوت الناس إلى الجهات المختصة، وفي كلا الحالتين نحتاج إلى مكاشفة صريحة، ووقفة جريئة مع الذات، ومحاسبة أنفسنا أولاً لنكون أكثر قدرة على توجيه الانتقادات للأداء الحكومي بشكل خاص، أو لجهة تناولنا الدائم والمشروع لحالات التقصير والضعف في الأداء لدى الكثير من الجهات الرقابية والخدمية التي وصل حضور بعضها إلى حد الغياب التام، وطبعاً المقصود هنا تلك الجهات التي لا تملك من اسمها شيئاً (حماية المستهلك).
طبعاً المحاسبة والمساءلة الشخصية هنا لا تصل إلى مستوى جلد الذات، بل تنحصر في تحكيم الضمير، والقيام بالواجبات، والالتزام بالقوانين، والمشاركة الفاعلة في خدمة المجتمع، ومن هنا تأتي مشروعية الاعتراف بأن الكثير من المؤسسات الحكومية بمختلف مهامها واختصاصاتها استطاعت، أو بالأحرى نجحت في امتحان الأزمة رغم ضخامة التحديات التي واجهتها، وطبعاً ذلك لا يبرئها بالمطلق، أو يبرر لها أخطاءها وممارسات وفساد بعض مفاصلها التي لا يمكن أن تؤخذ بشفاعة الظروف والأحداث التي نعيشها منذ أكثر من تسع سنوات تقريباً.
لا شك في أن البعض – وهذا مؤكد! – سيضع هذا الاعتراف في خانة المجاملة للوزارات والمؤسسات الحكومية، أو في إطار مساعدتها للتنصل من مهامها ومسؤولياتها، والتغطية على الأداء المتواضع والضعيف للمسؤولين فيها، ولذلك سنبتعد عن صيغة الغيبيات والكلام المبني للمجهول، وسنعتمد على الشواهد التي تعزز من حقيقة صمود المؤسسات، وقوة حضور الدولة ككل في حياة الناس، والبداية ستكون من حالة استمرار المؤسسات الخدمية في تأمين احتياجات المواطن من كافة النواحي، رغم الكثير من التحديات، وفي مقدمتها الحالة الأمنية السائدة في بعض المناطق، وحالة الحصار الاقتصادي.
ما نريد قوله باختصار شديد: إن تقاسم المسؤولية بين المواطن والمؤسسات الحكومية، والاعتراف المتبادل بالجهود التي تبذل، وبحقيقة ما يعانيه المواطن، وما تقدمه الدولة له في كافة المجالات والمناحي، يشكّل الخطوة الأولى على طريق التعافي والصمود المعيشي والاقتصادي الذي أخطأ البعض في تقديمه للناس من بوابات غير مناسبة أو غير متطابقة مع معايير الصمود الشعبي، ومن جهة ثانية، بالتحكيم العقلي نستطيع التأكيد على أن قوة الدولة وحضورها الأبوي نتيجة حتمية لإيمان المواطن وثقته بمؤسساتها، فهل تعزز هذه الثقة بالمزيد من الرعاية والاهتمام، أم ستترك الأمور ليكون هناك المزيد من الأبناء العاقين والمتمردين على مجتمعهم الأبوي؟
بشير فرزان