تجليات التناص في شعر فايز خضور
ارتبط مصطلح التناص بالحداثة وغدا مكوناً أساساً من مكوّناتها، إذ تبنته بوصفه واحداً من تقنياتها المرتبطة بوعيها الراهن، فانعكس أثر ذلك في كلّ من الوعي والموقف الشعريين من جهة، والرؤيا الشعرية من جهة ثانية، والتمثل الثقافي/ المعرفي، الذي انعكس في العلاقة مع الوجود من جهة ثالثة، وتبدّى أثر ذلك لدى كل من المبدع والمتلقي بشكل تكاملي، كما تؤكد بتول دراو في كتابها “تجليات التناص في شعر فايز خضور”.
وتميّز التناص من المصطلحات المشاكلة لـه، فقد أصبحت لـه خصوصيته المستقلة.. إنه حوار النصوص القائم على الأخذ والردّ، على التصحيح والتقويم، وعلى رسم العالم المفارق، ولذلك احتلت الأسطورة والدين أوّل اهتمامات الشاعر الحداثي، لأن نصهما يمثل الصراع الوجودي بين طرفيه على صعيد الآلهة والبشر معاً، وهو الصراع الذي صاحب البشرية منذ وجودها.
ويعدّ فايز خضور واحداً من شعراء الحداثة المتقدمين، ولذلك فإن تطبيق التناص عليها يحيط به من مختلف تبدياته الجمالية. ولعل سمة الرفض التي صاحبته منذ مطلع نصوصه الشعرية في فاتحة الأسفار الأولى، كانت الناظم لسياق تجربته الشعرية المتسمة بالغزارة على أن موضوعة التناص هي الأبرز في شعره، ولعل مبالغته الزائدة أحياناً أوقعته في المباشرة والتقريرية، كما أن سيطرة الأيديولوجيا عليه، ومحاولته تمثلّها في شعره لعبت دوراً في تلك المباشرة أيضاً. وفي مقابل ذلك، نجده وقد تخلّى عن المبالغة والأيديولوجيا يقدّم نصوصاً على درجة عالية من الفنية، حقّق فيها التناص جماليته المنشودة. يريد فايز خضور تعديل الوضع السياسي والاجتماعي والفكري، لهذا كان الغضب والألم والمعاناة والموت هي العوامل المتحكمة في الذات الشعرية المتبدية في شعره، وهو ما جعل أساطير الخصب أكثر تردداً في شعره من سواها، إذ يسعى من خلالها إلى تحقيق الاستقرار النفسي للذات الشعرية، وأسلوب خضور قائم على الفصل بين الأنا والآخر/ الوجود، في صراع قائم بين خصب الأنا وعقم الواقع، ورغم أنه يبدو مستهتراً في الظاهر إلا أن الموقف والقصيدة عنده مصوغان بأناة، وأناقة وانسجام، كل ذلك في مناخ من انفجار الأعصاب، وتدفق الانفعالات الحادة. وربمّا هذا السبب كان وراء الوضوح الصريح في كثير من شعره. وقد استفاد فايز خضور من النصوص الأسطورية والدينية والشعرية، بل وحتى الشعبية، فهو يرى الناعورة جامدة لا حياة فيها.
هل أنا تائه؟ ذاك / كل النواعير/ أعرف شجو أغانيه/ أشتم رجوى البساتين حول سواقيه / ها هي ناعورة لا تبوح ولا تتململ/ إني لأعجب يا ماء، ناعورة لا تدور؟!
تتجلى الأشكال الفنية للتناص في شعر فايز خضور في مستويات لسانية صوتية ودلالية وتركيبية، وذلك بمنحها دلالات وطاقات إيحائية ورمزية جديدة. إن الصورة المقدمة، هي صورة لمدينة الشاعر، أغلقت الدائرة عليها، إنها تستغيث ولا تلقى استجابة، يقول:
بمن يستجيب الجنوب الحبيب؟ بمن يستغيث الشمال السليب؟/ بمن ينتحي البحر؟ والقلب في غوطة دمشق، يخفت فيه الوجيب!
وسعياً من الشاعر لإغناء فنية نصّه، فإن اعتماده النصوص الغائبة في ذلك جعل من الضروري تلقي الأشكال الفنية في علاقتها بالنصوص الغائبة، وكان للتناص دوره في البنى الفنية التي تبدت على صعيد (الصورة الرمزية والرمز الفني والشخصيات والإيقاع والبنية اللغوية والتداخل النوعي). وهي كلها أشكال فنية تتطلّب مقدرة فنية من المبدع، يحسن استعمالها ويحسن التعامل معها على صعيد النصّ الغائب، ذلك أنها كانت هي الدال الذي أحال على المدلول وهو النصّ الغائب المطروح في النص الشعري. وهذا ما ينطبق على تعامل الشاعر مع القيم الجمالية أيضاً، فهو يتناولها بطرق عدّة، وهذا الجمال ابتغاه الشاعر عن طريق الجلال الذي تبدّى في شخصيات الخصب التي أحال عليها في نصوصه الناجزة، كما كان لكل من المعذب والتراجيدي دور في تدعيم القبح الواقعي في نفسية الذات المتلقية.
إن وجود التناص مع الحداثة الشعرية، لم يأتِ نتيجة فعل اعتباطي عبثي، بل كان له الدور الأكبر في تدعيم الرؤيا الحداثوية، فكان من أهمّ التقنيات اللازمة لها، كما أكد المفارقة القائمة في الوعي التاريخي بين القديم والحديث، وهو في ذلك كله يعكس علاقة المبدع بالوجود، والواقع المحيط، وهذا ما يفسر ظهور المصطلح التناص بشكل واضح مع الحداثة الشعرية خاصة.. وكانت الذات الشعرية تتقمص عدداً من الشخصيات التي تحيل عليها في نصوصها الغائبة، ويتحدث باستنادها إليها، كما كان تعاملها مع الواقع المحيط قائماً على الطريقة ذاتها، ومن هنا ارتبط النصّ الغائب المطروح في النصّ الناجز بالمبدع الذي تبناه وأدخله نسيج تجربته الفنية، ما جعله مختصاً به ومرتبطاً به أيضاً.
وبذلك يؤكد التناص أهميته في دراسة وفهم شعر الحداثة، وارتباطه بها ووجوده معها، كما يؤكد أهمية استيعاب الموروث بأنواعه، وضرورة فهمه، ويبين أهمية الكيفية التي يتعامل الشاعر من خلالها مع هذا الموروث باستناده إلى الوعي الحاضن له.
فيصل خرتش