الإمبراطورية الأمريكية.. السقوط المدوّي
مخطئٌ من يظن أن الأحداث التي تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية الآن، فجّرتها حادثة قتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد خنقاً على أيدي الشرطة الأمريكية، وذلك أن الحادثة تتكرّر سنوياً أكثر من مرّة، حيث شاهدنا حادثة مماثلة في العام الماضي ولم يحدث في حينها أيّ ردّ فعل مشابه.
ولكن المراقب للتوقيت الذي وقعت فيه هذه الحادثة يمكن أن يلاحظ عدة أمور، منها أن الحادثة جاءت في الوقت الذي تفرض فيه أغلب الحكومات في العالم الحجر الصحي على مواطنيها، والحكومة الأمريكية في مقدمتها، وقد أشارت آخر الإحصائيات إلى فقدان مئات الآلاف من الموظفين في الولايات المتحدة وظائفهم على خلفية انتشار هذا الوباء، في مقابل تقاعس واضح من الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها إزاء مواطنيها، وظهر تمييز واضح في التعامل مع المصابين بهذا المرض بين فئات المجتمع، كما ظهر جلياً إحجام الحكومة الأمريكية عن تحمّل نفقات العلاج لهذا الوباء من خلال طرح تكاليف باهظة للمعالجة لا تستطيع غالبية فئات الشعب الأمريكي تحمّلها، وخاصة بعد أن تحدّثت تقارير صحفية عن أن نحو 40٪ من الشعب الأمريكي يقف تحت خط الفقر، وهؤلاء ليسوا جميعاً مواطنين أمريكيين من أصول إفريقية، فموضوع الفقر صار سمة عامة لأغلبية الشعب الأمريكي، في ظل النزعة المادية التي تتحكم بالإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة دونالد ترامب الرئيس الأكثر جدلاً في التاريخ الأمريكي، فضلاً عن تقارير أخرى تحدّثت عن أن أغلب الوفيات في الولايات المتحدة بسبب كورونا كانت من أصحاب البشرة السمراء، وتم تقدير نسبتهم بنحو 70٪ من الوفيات، ولاسيما بعد انتشار تسجيلات لمواطنين من أصول إفريقية في أوروبا يتحدّث أصحابها عن اتخاذ كورونا ذريعة للمتاجرة بأعضاء ذويهم من خلال تشخيص إصابتهم بهذا المرض دون وجوده على الحقيقة حيث يتم التخلص من جثثهم عبر حرقها.
هذا الرئيس الذي حاول أن يوحي من خلال شعاره الشهير “أمريكا أولاً” بأنه أكثر الرؤساء الأمريكيين حرصاً على الاقتصاد الأمريكي، أدّت سياساته وحروبه التجارية حول العالم إلى تراجع حاد في حجم التجارة العالمية مهّد لحالة الكساد الحالية التي عزّزها انتشار وباء كورونا بشكل كبير، فضلاً عن العقوبات الظالمة التي يتعمّد فرضها بين الفينة والأخرى على كثير من دول العالم في محاولة لفرض هيمنة واشنطن على قرارها السياسي.
ونزعته المادية هذه دفعته إلى محاولة خنق التنين الصيني الذي حقق نموّاً اقتصادياً هائلاً في السنوات الأخيرة، وهو مرشح لأن يكون الاقتصاد الأول في العالم، الأمر الذي أثار الرعب في الأسواق العالمية وأدّى إلى تراجع الاقتصاد العالمي على نحو غير مسبوق يمكن أن ينبئ بكساد عظيم يطيح بأكبر الاقتصادات العالمية ومنها الاقتصاد الأمريكي ذاته.
ولا يخفى على أحد أن الإمبراطورية الأمريكية تم تأسيسها أصلاً على جماجم سكان البلاد الأصليين الهنود الحمر الذين تعرّضوا لحملات إبادة ممنهجة على يد البيض الأنجلوساكسون الذين جاؤوا إلى العالم الجديد في قارة أمريكا مطرودين على الأغلب من أوروبا لكونهم عصابات سطو وجريمة منظمة نبذتهم مجتمعاتهم الأوروبية وتخلصت منهم.
هذه المهنة التي امتهنوها في مجتمعاتهم الأصلية رافقتهم إلى العالم الجديد الذي مارسوا فيه أبشع الجرائم بحق السكان الأصليين إلى أن تمكّنوا من تشكيل مقاطعات يحكمها زعماء العصابات تحوّلت إلى ولايات فيما بعد.
المهم في هذا الأمر أن الهاجس الوحيد الذي كان يلاحق هؤلاء دائماً هو كيفية الإثبات أنهم قادرون على تشكيل إمبراطورية توازي الإمبراطورية الأوروبية التي طردوا منها أو تتفوّق عليها، فشرعوا باستقدام العبيد من القارة الإفريقية وامتهنوا تجارة الرق لاستخدامهم في الأعمال الشاقة التي يتطلبها بناء الإمبراطورية، فكانوا يستخدمونهم في المناجم والزراعة والصناعة وغيرها من الأعمال التي تساعد على بناء اقتصاد الدولة، بينما تحوّل البيض رعاة البقر (الكاوبوي) إلى مجموعة من الإقطاعيين والبورجوازيين، الذين يديرون مقاطعات خاصة بهم ويتحكمون بالسلطة والمال في آن معاً، فتركزت السلطة والمال في أيدي حفنة من البيض على حساب سائر الأقليات الموجودة في المجتمع الأمريكي التي ينبغي عليها فقط أن تكون في خدمة هؤلاء.
العنصرية الموسوم بها المجتمع الأمريكي لا تقتصر فقط على أصحاب البشرة السوداء بل تتعداهم لتشمل جميع المواطنين الأمريكيين من أصحاب البشرة الملونة، وتطول أيضاً البيض ممن لا يملكون الثروة، لذلك فإن الخرق الحاصل في المجتمع الأمريكي لا يقتصر فقط على ممارسة العنصرية بدافع اللون، فهناك العنصرية المالية التي وسّعت الآن مروحة المعارضين للنظام الأمريكي السائد، حيث ساهم انتشار الفقر المدقع بين عامة الأمريكيين في زيادة النقمة الشعبية على النزعة المادية التي ترسخها الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
ومن هنا فإن المشكلة التي تعانيها الولايات المتحدة الأمريكية هي مشكلة النظام الأمريكي برمّته الذي لم يعد يستطيع الاستمرار في حكم المجتمع الأمريكي بالطريقة ذاتها التي تعتمد على تسخير عامة الشعب لخدمة مصالح حفنة من المافيات والإمبراطوريات المالية، ويبدو أن الاستمرار على هذا النحو من الأداء الذي يرسّخه تعنّت الرئيس الأمريكي الحالي سيقود بالمحصلة إلى انهيار هذا النظام بشكل دراماتيكي لا يمكن التكهّن به، بسبب حالة الاستقطاب الحاد حالياً بين عامة الشعب الأمريكي الفقيرة وأصحاب رؤوس الأموال ومافيات المال، وهذا ما ظهر جلياً في أعمال النهب والتخريب التي انتشرت مؤخراً في معظم الولايات الأمريكية.
وبالمحصلة، عندما تبلغ الإمبراطوريات الذروة المتوخاة للنظام الذي يحكمها، لا بدّ من الهبوط مرة أخرى إلى المكان الذي انطلقت منه، ولكن السقوط في الحالة الأمريكية يمكن أن يكون مدوّياً على اعتبار أن الصعود في الأساس كان صعوداً سريعاً، وأول مؤشر على ذلك طرح بعض الولايات الأمريكية الانفصال فعلياً، فضلاً عن قيام الحشود الغاضبة بتدمير تمثال جورج واشنطن الذي يرمز إلى حالة الاتحاد.
طلال الزعبي