الحرب والعقوبات الاقتصادية.. تحديات أمام الطفولة وخطوات ضرورية للأمن النفسي
المهندس دريد إبراهيم، خبير تأهيل وتدريب الأطفال ذوي الاضطراب، أكد أن النتائج الأكثر خطورة التي خلفتها الحرب الكونية المستمرة على سورية تتعدى مفهوم تدمير البنى التحتية، والتهجير، والتدهور الاقتصادي، حيث تصل خطورة الأمر إلى درجة تدمير الأمن النفسي للمجتمع، وعلى وجه الخصوص الأمن النفسي لجيل الطفولة، فمعظم أطفالنا على امتداد البلاد إما تعرّضوا، أو شاهدوا، أو سمعوا بالممارسات الإرهابية التي رافقت مسيرة هذه الحرب، ما أحدث عند أطفالنا حالة من الاضطرابات تسمى باضطرابات ما بعد الأزمة، وهي جملة من المتغيرات النفسية السلبية، ومن أهمها حالات القلق المرضي، والتوتر، والهلع التي سبب تراكمها جملة من التغيرات السيكولوجية مثل تراجع مستوى الانتباه، وتدني الذاكرة المعرفية، وتأخر سن النطق إلى ما بعد السنتين، إضافة لتزايد نسبة العيوب النطقية من اللدغ، واللثغ، والتأتأه، كما سُجل أيضاً تغير واضح في الحالة السلوكية الخاطئة لأطفالنا مثل ارتفاع منسوب الاستثارة العصبية، وردود الفعل القاسية، والتعنت بالرأي، وارتفاع نسبة حالات فرط النشاط، وبعض السلوكيات العصابية كقضم الأظافر، وهذا كله أثار التساؤلات حول أثر ما ذكر أعلاه على القدرة المعرفية لأطفالنا، وتحرك جدل كبير، ولغط دار حول المناهج التعليمية المحدثة، واتهامات متبادلة بين الأهل من جهة الذين يرون أن المناهج الجديدة تحمل من الصعوبة لدرجة لم يستطع المدرّس التعامل معها، والطاقم التدريسي من جهة أخرى الذي يعتبر أن المناهج الحديثة تفتقر لجملة من المعطيات والأدوات غير المتوافرة، والحقيقة تقول إن المشكلة تكمن في تراجع الأدوات النفسية والذهنية عند أطفالنا بالدرجة الأولى، ما أدى إلى تراجع الرغبة في امتلاك القدرة المعرفية، وعلينا ألا ننسى أيضاً أن بيئة الحرب تعتبر بيئة خصبة لارتفاع الإصابة باضطراب التوحد عند الأطفال نتيجة كثرة الضغوط النفسية التي ترافق الأم خلال فترة حملها، والتي تؤثر على الجنين مباشرة، أو نتيجة تعرّض الطفل لحالات الخوف المتكرر قبل عمر الثلاث سنوات، والتي قد تكون سبباً في ظهور اضطراب التوحد لديه، كل ما تحدثت عنه يجعلنا نستشعر خطراً يحيق بأطفالنا الذين من المفترض أن يكونوا بناة المستقبل، ويجعلنا نرفع حالة الجهوزية للتصدي لهذا الخطر من خلال تعزيز مفهوم الدعم النفسي مجتمعياً، وتحويله إلى حالة واقعية تقدم في جميع مؤسسات الطفولة كالمدارس من خلال سلسلة من البرامج العلمية مضمونة النتائج، ولا ننسى أيضاً أن الحرب المستمرة وصلت إلى مرحلة استهداف أبناء الوطن باحتياجاتهم الأساسية من غذاء، ودواء، وهذا سيكون له أثر كبير يضاف إلى جملة الآثار السابقة من حيث أن الارتفاع غير المسبوق لأسعار المنتجات الغذائية سيسبب أيضاً تدهوراً في الميزان الغذائي لأطفالنا، ونقص نسب العناصر الغذائية التي يحتاجونها يومياً لبناء صحتهم الجسدية، والعقلية، والنفسية، ما سيفاقم مشاكل الطفولة في سورية، وواجبنا الآن يحتم علينا جميعاً أن نتضافر لتقديم أقصى ما نستطيع لحماية أطفالنا.
الخاسر الأكبر
الأطفال دائماً بحاجة لكل رعاية، واهتمام، فكيف إذا نشؤوا في جو من الآثار التدميرية، والمادية، والجسدية التي تخلّفها الحروب التي انعكست على الأفراد بمختلف فئاتهم، بحسب الباحث الاجتماعي غزوان الحسن، فذاك الطفل الذي يختزن في خياله ما رآه من عنف قد ينعكس على مستقبله نتيجة خوفه مما يراه من مشاهد قد تؤدي به لتشتت الانتباه والاكتئاب، فالطفل بالنهاية غير مهيأ لمشاهد العنف والقتل، ونلاحظ أن للتأثير النفسي ثلاثة أعراض: الأول: التكرار، حيث يتكرر الحدث المرضي لدى الطفل، سواء بأحلامه أو خلال النهار، ويستعيد المشاهد المؤلمة بشكل دائم، والثاني: حالة الاستثارة الفيزيولوجية، وهي مجموعة الآثار الجسدية التي تظهر بوضوح عند الأطفال مثل التبول اللاإرادي، والثالث: الانطواء، حيث ينعزل الطفل ويفقد الرغبة في اللعب، أو الحديث مع الأطفال الآخرين، أو يرفض القيام ببعض الأعمال التي يكلّف بها من قبل الأهل، ويقوم بجميع نشاطاته اليومية بمساعدة الأم وبوجودها بجانبه بصورة دائمة، وبعد أن يصل هذا الطفل لعمر المراهقة تمتد تلك الآثار وتأخذ أشكالاً جديدة، وأكثر خطورة، فقد يتآلف مع مشاهد العنف، ويعتبرها تحقيقاً لذاته، وشخصيته، دون أن يعتبرها سلوكاً سلبياً، إضافة لاتجاه البعض الآخر نحو المخدرات، أو مخالفة القوانين، ولابد من الإشارة إلى أن تكرار الأزمات قد يؤدي لتحطيم الأمل بالحصول على الأمان، والمستقبل مجدداً، فمن نجا من الحرب العسكرية سيواجه حروباً أخرى متعددة، تأتي في مقدمتها الحرب الاقتصادية التي نواجهها حالياً، حيث يصل الشخص إلى درجة يجد نفسه غير قادر على إيجاد التفسير لما يجري حوله، لأن تكرار الأزمات يعيد إحياء الصدمات، إضافة للمعاناة التي يعيشها الطفل في حاضره، خاصة أنه يلمس سوء الوضع المادي للأهل، وما تتبعه من مشاكل يومية متجددة في تأمين موارد الحياة، وتنتج عن ذلك عدة أعراض نفسية كالقلق الحاد، والهلوسة، وزيادة ملحوظة في الحركة، وأحياناً الغياب عن الواقع، وعقدة الشعور بالذنب، ولابد من الإشارة إلى أن بعض الأفراد ينجحون في تحمّل الواقع، وتجنيب أنفسهم وأطفالهم آثار هذه الأزمات من خلال استخدامهم لعملية التأجيل كآلية دفاعية نفسية لنسيان مرارة الواقع، أو إعطاء معنى سام لما يحصل، والفخر بالخصال النبيلة كالصبر، والتضحية، ويبقى السعي الدؤوب نحو تحسين الواقع هو الأساس، والضمانة للوصول نحو السلامة النفسية للجميع.
بشار محي الدين المحمد