القوة العظمى تلجأ للفرار والانسحاب !
ترجمة: عناية ناصر
عن موقع واشنطن فري بيكون 20/6/2020
“أمريكا تتراجع، إنها تنسحب من العالم، ويتباعد سكانها بعضهم عن بعض“. هذه بداية تقرير “وول ستريت جورنال” الذي نشر مؤخراَ، والذي ذكر فيه أن الرئيس ترامب أمر بسحب أكثر من ربع القوات الأمريكية من ألمانيا وسط الاضطرابات الداخلية التي أعقبت قتل الشرطة لجورج فلويد. الحقيقة هي أن المسألتين الخارجية والمحلية مترابطتان. إنها جوانب مزدوجة لفقدان الثقة بالنفس الوطنية، وانتشار حالة من عدم اليقين الفكري والأخلاقي، والنتيجة أن هذا الرئيس الذي لا يمكن التنبؤ به، غريب الأطوار، وتسهل إثارته.
الانسحاب ليس بالضرورة سيئاً في حد ذاته، فقد خفض كل من جورج دبليو بوش وباراك أوباما مستويات القوات في أوروبا، لكن الأمر المقلق ليس السياسة في حد ذاتها بل في الطريقة التي يتم طرحها بها، والسياق الذي يتم فيه تحقيقه. ففي اللحظة التي كان ينبغي فيها تعزيز الشراكات وتوسيع نطاق وجودها لردع خصومها، أرسلت أمريكا إشارة أخرى على أن أيام قيادتها العالمية تقترب من نهايتها.
كان التوقيت غير مشجع، حيث تم تسريب التقرير إلى الصحيفة بعد أيام قليلة من رفض المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دعوة الرئيس ترامب لها لزيارة واشنطن في حزيران (رغم تأكيد مسؤول أمريكي بارز للصحيفة أن الحدثين غير مرتبطين). لم يكن هناك بيان رئاسي، ولم تكن هناك محاولة عامة لتهدئة حلفاء أوروبا وحلف شمال الأطلسي. كانت ميركل ترفض خط أنابيب نورد ستريم الثاني، إلاّ أن الحفاظ على التحالف مع أمريكا يتطلب إجراءات نشطة من كلا الجانبين.
إن أحد أسباب انحلال النظام الدولي الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية هو أن الحكومات عبر الأطلسي كثيراً ما تضع السياسات المحلية قبل المصالح المشتركة. ومن السهل التغاضي عن هذا الاهتمام المتبادل لنظام عالمي من الحكومات الحرة والمفاهيم المفتوحة للبحر والجو والفضاء والسيبراني، ما يجعل التدهور المؤسسي الأمر أسهل. يقول السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة: إن الشعب الأمريكي بحاجة إلى أن يقرر ما إذا كانت المنظمة “تستحق العناء”، ويصف الرئيس الفرنسي حلف شمال الأطلسي بأنه ميت، وتقرر المحكمة الدستورية الألمانية أن برنامج شراء السندات التابع للاتحاد الأوروبي غير قانوني، وتصبح التجارة العالمية المنظمة معاقة، والرئيس الأمريكي يتعهد بوقف التمويل لمنظمة الصحة العالمية.
لم يتم اتخاذ أي خطوات جدية لاستعادة أو إعادة بناء هذه المؤسسات، أو لبناء مؤسسات بديلة جديدة يمكنها القيام بوظائفها الأصلية. تعرضت الاتفاقية التجارية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، التي يمكن أن تكون حجر الزاوية في تجديد العلاقات عبر الأطلسي، للمخاوف من الوباء والركود والاحتجاج.
ما يميز العلاقات الدولية الآن هو الصراع والعداء وعدم الثقة والتجاهل، وهذا هو شكل البيئة التي تتطلب وجود القوات الأمريكية في الخطوط الأمامية لطمأنة الدول المضيفة، وتحقيق الأمن الدولي، وردع الخصوم من الأعمال العدائية. لكن من ينظر إلى أمريكا يرى أنها تريد الخروج من سورية، الخروج من أفغانستان، الخروج من العراق، الخروج من أفريقيا، والخروج من ألمانيا. وقد ترغب الولايات المتحدة في السنوات القادمة بالخروج من كوريا الجنوبية، وحتى من اليابان. قد تكون واحدة أو حتى العديد من هذه التحركات معقولة بمفردها، ولكنها جميعها تنقل الإحساس بعدم اهتمام أمريكا في أداء دور الضامن الذي لعبته في السياسة الدولية لأجيال.
إن ظروف الاضطراب العالمي والاضطرابات الداخلية التي مرت بها أمريكا خلال السنوات الأخيرة من إدارة أوباما، يعاد تلخيصها (وتضخيمها) قبل الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني القادم، فالرئيس يواجه ثلاث أزمات متداخلة تتعلق بالصحة العامة والاقتصاد وعدم الاستقرار الاجتماعي. إن ظهور أزمة رابعة، تمس الأمن القومي وصراع القوى العظمى قادرة على وضع ضغوط لا تحصى على نظام محاصر بالفعل. العالم يزداد خطورة دائماً عندما تلجأ القوة العظمى للفرار والانسحاب.