دراساتصحيفة البعث

التعددية بعد فيروس كورونا

إعداد: عناية ناصر

إن مستقبل التعددية أبعد ما يكون عن التأكيد، ولكن في عالم من أقطاب القوة الضعيفة، قد ينتهي الأمر بالتعددية إلى كونها الخيار الأفضل لإعادة بناء عالم أقوى وأكثر مرونة، كما يؤكد خبير نادي فالدي جان ماري غيهينو، مساعد أمين الأمم المتحدة بين 2000-2008.

ما هو مستقبل النظام متعدد الأطراف بعد COVID19؟ سيعتمد الكثير على التكوين الجيوسياسي الذي سينبثق من الأزمة، وعلى الدور الذي لعبته المنظمات متعددة الأطراف خلال الأزمة. في الوقت الراهن، تتفوق الجهود الوطنية على دور المنظمات المتعددة الأطراف. لكل دولة استجابتها الصحية الوطنية الخاصة بها، ومعظم الجهود المبذولة للتخفيف من الأثر الاجتماعي والاقتصادي للأزمة تأتي هي أيضاً من الحكومات الوطنية، فقد تبنت جميع القوى الكبرى سياسات مالية مماثلة، وإن لم تكن منسقة. إنهم يضخون كميات هائلة من الأموال في الاقتصاد لإنشاء شبكة أمان للأسر والشركات. وسيعتمد الحجم النهائي لهذا الدعم على مدة توقف الاقتصاد، ولكن حتى لو كان هذا التوقف قصيراً نسبياً، فلا شك في أن الدين العام في جميع أنحاء العالم سيرتفع بمقدار كبير جداً، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي نمو إجمالي الديون المالية في العالم إلى 96،4٪ من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، من 83،3٪ في عام 2019. حدث هذا في وقت كان فيه أكبر الاقتصاديين في العالم فعالين للغاية. يمثل الدين العام + الخاص 310٪ من الناتج المحلي الإجمالي في الصين، و210٪ في الولايات المتحدة. في غضون ذلك، ستؤثر أسعار السلع والطاقة المنخفضة على البلدان التي تمثل فيها حصة مهمة من الإيرادات، مثل روسيا والعديد من الدول العربية والإفريقية.

في مواجهة هذا الوضع، هل ستتجه القوى الكبرى في نهاية المطاف إلى الأمم المتحدة والتعددية؟ سيؤثر أداء المؤسسات الدولية بالتأكيد على قراراتها، وتُظهر منظمة الصحة العالمية أهميتها كمنصة لتبادل المعلومات وتقديم المشورة والدعم للدول الضعيفة التي هي في أمس الحاجة إليها، لكنها تعرضت لانتقادات بسبب عدم استقلاليتها بما فيه الكفاية، وقد تم إضعافها أكثر بسبب هجمات الرئيس ترامب عليها. لا شيء في هذه المرحلة يضمن ظهورها كفاعل قوي بعد الأزمة: على الصعيد الاقتصادي، لا يزال من غير الواضح مقدار الدور الذي سيلعبه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعلى الصعيد السياسي أصدر الأمين العام دعوة لوقف إطلاق نار بالعالم، ولكن لم يتغير الكثير على الأرض واستمرت العديد من الصراعات بلا هوادة، حتى كان مجلس الأمن غير مرئي إلى حد كبير.

يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس مع ما طرحه نادي فالدي، فقد يصبح العالم أكثر تعددية للأقطاب، لكنها ستكون أقطاباً ضعيفة، حيث سيكون لكل قطب نظرة داخلية أكثر، وسيعطي الأولوية لاستعادة قوته. سوف يضاعف الوباء آثار القيادة غير المنتظمة في واشنطن، ولكن من غير المحتمل أن تكون هناك دولة في وضع يمكنها من جني فوائد ذلك الموقف الأمريكي الضعيف لنفسها. ستحتاج الصين، بصرف النظر عن التحدي الديموغرافي الذي يلوح في الأفق، لقوة عاملة تتضاءل بسرعة في العقود المقبلة، وإلى تسريع عملية إعادة التوازن في اقتصادها بحيث تكون مدفوعة بشكل أقل بالصادرات، حيث يعيد شركاؤها التجاريون الرئيسيون تقييم سلاسل التوريد. وفي أوروبا، من المرجح أيضاً أن تتبنى ألمانيا نموذجاً اقتصادياً أقل اعتماداً على الصادرات، وسيكون الاتحاد الأوروبي ككل أكثر نظرة للداخل، مع التركيز على حماية الصناعات الاستراتيجية، وستتوزع السلطة بشكل متساوٍ، لكن أفق كل بلد سيتقلص.

سيكون اختبار التعددية عندما تدرك القوى الكبرى، مثل المرضى الذين عانوا من نوبة حادة منCOVID19، أنها جميعاً ضعيفة، وأن أزمة COVID19 لم تحقق أي منتصر، بل خاسرين فقط. ومن المرجح أن تظل التجارة العالمية والنمو العالمي أدنى مما كانت عليه في الفترة السابقة، وهو لن يفيد أحداً ولكنه سيؤذي بشكل خاص البلدان الأضعف في العالم النامي. عندما تنتقل القوى الكبرى إلى موقف وطني أكثر تشدداً وتركيزاً على الصعيد المحلي، ستواجه خياراً صارماً: قد تختار ما يمكن وصفه بـ “سياسات القوة للضعف”، أو بدلاً من ذلك تقر بأن الموقف الأكثر تعاوناً سيفيدها على المدى المتوسط.

ولا شك أن “سياسات القوة للضعف” ستضعف تعددية الأطراف، ولكن لديها جاذبيتها. إنها توفر فرصة لممارسة سياسات القوة بثمن بخس، مستغلة نقاط ضعف الخصم المحتملة بدلاً من بناء قوتها، وهي عملية طويلة ومعقدة. في هذا السيناريو، من المرجح أن تذبل الأمم المتحدة، من خلال اللامبالاة ، بدلاً من العداء النشط. لا يمكن للأمم المتحدة أن تغير نفسها دون دفعة قوية من الدول الأعضاء فيها، وغياب الدعم النشط سيكون كافياً لإضعاف منظمة يصعب إصلاحها تدريجياً، فهياكلها تظهر بالفعل محدوديتها في التعامل مع القضايا العابرة للحدود الناشئة التي لم يتم تصورها من أجلها، سواء كان ذلك إرهاباً أم دولاً فاشلة أو تأثيراً للتقنيات الجديدة. وفي مثل هذا السيناريو، من المرجح أن تكون الأمم المتحدة مهمشة، حيث يتفتت العالم. سيكون التراجع أكثر دراماتيكية بكثير من ذلك الذي شهدناه في بداية الحرب الباردة، لأن الأمم المتحدة اكتسبت منذ الخمسينيات دوراً عملياً رئيسياً.

ومع ذلك، يمكن أن يتطور سيناريو بديل إذا توصلت مجموعة حرجة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إلى استنتاج مفاده أنها ستستفيد من أمم متحدة فعالة بشكل معتدل. وفي عالم ستوزع فيه القوة أكثر من أي وقت مضى، لن يكون هناك دولة قوية بما فيه الكفاية لتشكيل منظومة الأمم المتحدة وفقاً لأولوياتها الوطنية، وستدخل الأمم المتحدة مرحلة غير مسبوقة من تاريخها، حيث سيكون الدور الاستراتيجي نتيجة مفاوضات بين القوى التي لها وجهات نظر متباينة تماماً في العالم، ولكنها مع ذلك تريد أن تلعب الأمم المتحدة دوراً مهماً.

يمكن أن تتفق على جدول أعمال مصغر، بحيث يكون النظام القائم على القواعد مع درجة ما من التعاون يجعل العالم أكثر قابلية للتنبؤ، والذي يفيد الجميع، وخاصة القوى العالمية التي يرتبط ازدهارها بدمجها في النظام العالمي. وسيظل السلام والأمن مهمة أساسية للأمم المتحدة، ولكن يجب إيجاد توازن جديد بين المفاهيم الطموحة التي تم وضعها خلال العقد الأول من هذا القرن، مثل المسؤولية عن الحماية، والوصفات الأضيق بكثير لميثاق الأمم المتحدة بالنسبة إلى استخدام القوة. وسيكون الاختبار المثير للاهتمام هو تطور حفظ السلام. هناك مصلحة مشتركة بين القوى الكبرى في وقف توسيع المساحات غير الخاضعة للتحكم والتي يمكن أن تصبح ملاذات آمنة للإرهاب. قد توافق الدول الأعضاء، دون تأييد كامل لأجندة الديمقراطية التي دعمت العديد من عمليات حفظ السلام في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، على تقديم دعم شامل للدول التي هي على حافة الانهيار، واستخدام إطار الأمم المتحدة لتقديم هذا الدعم.

إذا كان هناك أي شيء يمكن تأكيده، فهو أن أزمة COVID19 أظهرت مدى ارتباط العالم، وكيف أنه لا يمكن إيجاد حل لمعظم التحديات على أساس وطني بحت. إذا أرادت الأمم المتحدة الدخول في مرحلة جديدة من تعددية الأطراف، فلن تقتصر على دورها الأساسي في حفظ السلام والأمن.  إن المناخ والأوبئة والسيبرانية والذكاء الاصطناعي هي تحديات عالمية تتطلب استجابات منسقة عالمية. وسيتعين تحديث الوكالات المتخصصة في هذا السياق وتعزيزها. وأخيراً، توضح أزمة COVID19 أنه في أي أزمة عالمية كبرى يجب أن تدمج الاستجابة الفعالة الأبعاد الفنية والاقتصادية والمالية والسياسية.

أي سيناريو سيسود؟ من بين القوى المختلفة التي يمكن أن تغير التوازن نحو نموذج تعاوني، سيكون للصين والولايات المتحدة وروسيا والدول الأوروبية وجهات نظر مختلفة. ستدفع الصين والولايات المتحدة إلى التنافس الاستراتيجي الثنائي، وفي حين أنهما قد يقرران في نهاية المطاف أنهما في وضع أفضل مع وجود الأمم المتحدة العاملة، فمن غير المرجح أن تقودا هذه العملية. روسيا وأوروبا في وضع مختلف. لا توجد فائدة طويلة الأجل لها من زيادة الاستقطاب بين الولايات المتحدة والصين، فهي تخاطر بأن تصبح شركاء صغاراً. على الرغم من أنهم قد يستفيدون تكتيكياً منه، إلا أن مصلحتها الاستراتيجية هي تجنب مثل هذه النتيجة. لدى أعضاء الاتحاد الأوروبي أسباب إضافية لدعم نموذج تعاوني: نموذجهم مبني على التعاون والنظام القائم على القواعد، ولديهم اهتمام قوي بتضمينه في إطار أوسع، بعد كل ذلك، بعد بداية غير مؤكدة، يبدو أن أزمة  COVID19، بدلاً من إضعاف الاتحاد الأوروبي، تؤدي الآن إلى تكامل مالي ومالي أعمق داخل الاتحاد.

إن مستقبل التعددية أبعد ما يكون عن كونه مضموناً، ولكن في عالم من أقطاب قوة ضعيفة، وقد ينتهي الأمر بالتعددية إلى كونها الخيار الأفضل لإعادة بناء عالم أقوى وأكثر مرونة.