التحولات الكبرى في العالم و انعكاساتها على بيئة الأحزاب الوطنية
علي اليوسف
شهد العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق تحولات عسكرية واقتصادية واجتماعية كبيرة أعادت اصطفاف دول العالم حسب مصالحها الخاصة، وبالطبع انعكست هذه التحولات على الدول العربية، وعلى أحزابها بشكل خاص، وهذا دفع الأحزاب العروبية للوقوف على أهبة تحمل مسؤولية المرحلة بما فيها التنافس الحضاري القائم على الاستقلال والريادة والتحرر، وإنهاض الأمة وتصليب جبهتها الداخلية، ومعالجة الأزمات التي تعترض التنمية والتطوير، وبالتالي مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية على حد سواء. في ضوء ذلك أصبح من المهم أن يتحدد الدور المنوط بالأحزاب العربية في المرحلة القادمة بخطوطه العامة، على صعيد الإصلاح الداخلي، ودحر المشروع الصهيوني.
لعل وصول أحزاب ذات طابع ديني إلى سدة الحكم في عدد من الدول يعد مؤشراً مهما للإسراع بدفع الرؤية الاستراتيجية للأحزاب العربية نحو تحقيق مزيد من التقدم السياسي وتفعيل برامجها في المنطقة، لأن الظروف القائمة اليوم تلقي بظلال سلبية على تفكير الناشطين والقادة في الأمة، وإن دراسة الواقع واستشراف المستقبل، وتفهم طبيعة معادلات التغير المتوقعة، تؤكد أن المنطقة والنظام الدولي وطبيعة الصراع ومخرجاته ستشهد تحولات كبيرة، وإن السنوات العشر القادمة سوف تشكل قاعدة للصورة الجديدة للمنطقة ولعلاقاتها مع النظام الدولي.
إن الأهلية القائمة اليوم للأحزاب والحركات العربية القومية في الحكم والمشاركة في القرار السياسي لا تقل قوة وقدرة عن الأنظمة القائمة، ولذلك فإن النظرة الموضوعية تشير إلى أن الحركات القومية الوطنية أثبتت الكفاءة الأكثر في سياسات وبرامج مواجهة المشروع الصهيوني، فيما أخفقت مختلف الاتجاهات العربية الحاكمة في هذه المواجهة، بل عملت على تعطيل دور هذه الحركات في التصدي لهذا العدوان التوسعي في بعض الأحيان.
كيف يمكن حماية الحزب من هذه التحولات؟
إن الجانب الأبرز من الإشكالية في الأحزاب العربية يكمن بأنها تعاني من أزمة عدم الإنجاز، الأمر الذي يدفعها للارتكاز على الإقصاء من جهة، وعلى إيجاد تحالفات مصلحية ضيقة من جهة أخرى، لذلك من الضروري إحداث إصلاحات عميقة في بنية وبرامج الأحزاب من خلال إنعاش الحياة الداخلية لبنى وتراكيب وهيئات الأحزاب، والنظر في البعد الاقتصادي والسياسي لها، وترقية العمل النقابي بالتعاون وتبادل الخبرات الدولية.
هناك العديد من المعوّقات التي تقف وراء الإصلاح من بينها، وربما أبرزها، عدم وجود رؤية واضحة للإصلاح على المستوى الرسمي، ووجود قوى وجهات محافظة متعددة مناهضة لمشاريع التغيير والإصلاح، وغياب الشفافية والرقابة والمحاسبة، وعجز الأحزاب في حل العديد من المشكلات الداخلية، ما يؤدي إلى خلق المزيد من الأزمات. ولإحداث تحول حقيقي لا ينبغي التعويل على الجهود الرسمية والحلول السياسية فقط، وإنما ينبغي الرهان على الجهود الشعبية أيضاً.
حزب البعث العربي الاشتراكي نموذجاً
بعد هذه التحولات الكبرى والتحديات الدولية والإقليمية يتطلب من حزب البعث العربي الاشتراكي العودة إلى أنه حركة يستوعب ويتطور ويتجدد في فهم جدلية الثابت والمتغير، والعودة إلى النقد الذاتي على المستويات الحزبية كافة عبر المؤتمرات والاجتماعات.
من المهم جداً أن يكون الحزب في مستوى الظرف التاريخي الذي يعيشه الحزب الآن، وأن يتم الاعتراف بالحاجة الملحة إلى تجديد هذا الحزب بالذات، في فكره وتنظيمه، لأن ما يواجهه حزب البعث يشكل نقطة على درجة كبيرة من الأهمية، تؤكد أن التوجه القومي الموحد ما زال قائماً، وإن كان متراجعاً.
لم يكن العيب مطلقاً في النظرية والفكر، وإنما في التطبيق، وساعد في ذلك حملات التشويه والتشهير من قبل إمبراطوريات إعلامية عربية ممولة بأموال النفط بلغت ذروتها في الحرب الكونية على سورية. لكن في ظل اتضاح خيوط المؤامرة، وصعود المشروع الصهيوني، وعمليات التطبيع معه، واعتماده حليفاً مدافعاً عن الأمة، بات هذا الفكر بحاجة إلى تطوير وتحديث، وانطلاقة جديدة، تعتمد على الشباب، وترتكز إلى الديمقراطية والنقد الذاتي، عنوانه الأول ضخ أفكار جديدة، وتصعيد قيادات شابة تتبنى العمل الميداني، والنزاهة الفكرية.
قد يشعر الإنسان بوطأة المشكلة، ولكنه غالباً ما يكون عاجزاً عن تشخيص أسبابها، وبالتالي سيكون عاجزاً عن وضع الحلول لها وتحديد وسائل تغييرها. فوعي أسباب المشكلة ووسائل علاجها شرط أساسي في عملية البدء بحلها. وهذا ما يسمى بالوعي السياسي.
بشكل عام، فإننا وإن كنا نعيش في عصر الحداثة وحقوق الإنسان ومن أهمها احترام حقه بالتفكير والقول، إلا أننا ننتمي معرفياً إلى عصر يعود إلى أكثر من قرن من الزمن. وهذا ما يؤكد أننا ننتمي إلى الحداثة والمعاصرة بالشكل الحضاري المادي، وليس بالعصر الثقافي المعرفي. والدليل على ذلك أن عصر التواكلية المعرفية والاستسلام المعرفي لا يزالان منتشرين على الأنموذج ذاته الذي عاش فيه أجدادنا.
الحزب هو أعلى درجات العمل الجماعي. وهو الوسيلة الأشمل التي تقوم بالتنسيق المنظم بين شتى بنى ومؤسسات التغيير الجماعية، من أندية ونقابات وجمعيات، وتساعدها على تخطيط حركتها وتحتضنها، وتشاركها.
تعتبر الأحزاب إحدى الظواهر البارزة في الحياة السياسية، كما أنها تعتبر تجسيداً لمبدأ المشاركة السياسية، إضافة إلى كل ذلك القيام بالتعبير عن إرادة المجتمع بكافة أطيافه ومصالحه. وجاء في بعض تعاريف الحزب السياسي، أنه يشكل “مجموعة من الأفراد يجمعهم الإيمان والالتزام بفكر معين. واصطلاح الحزب يستخدم للدلالة على علاقات اجتماعية تنظيمية تقوم على أساس من الانتماء الحر”.
لقد أثبت البعث عبر مسار نضاله أنه كان السدّ الذي حال دون تغريب الثقافة العربية، والتغريب الثقافي هو الجزء المتمم للمشاريع الأممية. ولا يمكن لتلك المشاريع السياسية المعادية أن تتحقق في المجتمع العربي من دون تغيير في بنيته الثقافية، أي نقلها من الثقافة الوحدوية إلى ثقافة التفتيت والتمزق. ولأن حزب البعث منع نفاذ ثقافة التغريب، يكون قد شكل حاجزاً صد بواسطته تغلغل تلك الثقافة.