“ميسلون” حاضرة.. و الأفق يمتد إلى الجولان
إبراهيم أحمد
إن كل شبر من أرض العرب بإمكانه أن يحكي قصة أمة ما فتئت تذود عن حياض أصالتها وعوامل بقائها، وبالتالي دورها ومكانتها التي تستحق كأمة بين الأمم العريقة ذات الحضارة التي تركت بصماتها في كل مكان، لقد استمدت دمشق من العروبة نسغ حياتها وماضيها، وفي العروبة تجد حاضرها، وفيها امتداد مستقبلها، فالبلاد التي قال عنها السوريون بلاد العرب أوطاني هي أرض العرب كلها، لا مكان لغاصب أو مستعمر أو محتل فيها، فلا سيادة لوطن إلا على كامل ترابه، ولا كرامة له إلا بكامل أرضه، هي فلسفة الانتماء والسيادة دون مساومة أو رهان، من هذه القناعات انطلقت شرارة الثورات في سورية منذ اللحظة التي وطأت فيها قدم المستعمر أرضنا الطاهرة.
لقد كانت معركة ميسلون الشرارة الأولى التي ألهبت نار الثورات في أرجاء سورية، وكانت إيذاناً بفتح صفحة في سفر النضال ضد الغزاة الطامعين بوطننا. فما أن تخلّص الوطن العربي من الاحتلال العثماني البغيض الذي دام أكثر من 400 سنة حتى ابتلي بالاستعمار الأوروبي، فكانت اتفاقية سايكس- بيكو، التي لايزال وطننا العربي يعاني آثارها حتى الآن، تمزيقاً وتقسيماً.
في شهر تموز من عام 1920، انعقد المؤتمر السوري الذي طالب بالاستقلال الكامل لسورية، والإبقاء على وحدتها الطبيعية والبشرية، وأن تكون وحدة هذه البلاد مصونة ولا تقبل التجزئة، لكن الرد الفرنسي المشحون بالحقد والكراهية لم يتأخر على مذكرة الاستقلال هذه، فكان قرار غزو سورية من قبل الجيوش الفرنسية المجهّزة بأحدث أنواع الأسلحة والمعدات الحربية، وإنذار غورو في الرابع من تموز 1920 الذي تضمن عدة شروط، منها: تسريح الجيش الوطني، إلغاء التجنيد الإجباري، قبول الانتداب الفرنسي دون قيد أو شرط، وضع شبكة حديد رياق- حلب تحت تصرف قوات الاحتلال الفرنسي، معاقبة القوميين والوطنيين العرب الذين يعلنون وقوفهم ضد الاحتلال الفرنسي، قبول التعامل بالنقد الصادر عن البنك السوري الذي تديره فرنسا من لبنان، وصل الإنذار الفرنسي إلى الحكومة في دمشق التي وقعت ضحية الحيرة والارتباك وتفرّق الآراء، وكان رأي يوسف العظمة رفض الإنذار والتصدي لفرنسا، لكن الجنرال غورو لم يكتف بإرسال الإنذار بل أمر جيوشه بالتحرك نحو دمشق على الفور، وسرعان ما علم الشعب العربي السوري بأمر ذلك الإنذار البغيض، فثارت ثائرته وهب بكل قواه للدفاع عن حريته وكرامته، قام يوسف العظمة، بما هو متاح، بتنظيم الجيش، وعمل على رفع معنوياته جامعاً مقاتليه ومتطوعيه ورجاله وقصدوا ميسلون رافضين الإهانة الفرنسية والتفريط بالشرف الوطني.
في ميسلون خاض البطل يوسف العظمة وكوكبة من فرسانه معركة غير متكافئة، خاضوا المعركة الأولى وأراقوا الدم الأول في حرب كفاح طويلة لاتزال تُسطّر فصولها دماء شهداء أبطال ذوداً عن حياض الوطن ضد العصابات الإرهابية التكفيرية ومشغليهم الانكشاريين العثمانيين الجدد، كان يوسف العظمة يعلم أنه ماض إلى حتفه، لكنه كان يدرك في الوقت نفسه أنه يدق مع رجاله في ذلك اليوم الرابع والعشرين من تموز عام 1920 أول مسمار في نعش الاحتلال، بالرغم من عدم التكافؤ بين القوة العربية السورية التي اختارت الدفاع عن سيادتها وكرامتها، والتي لم يتجاوز عديدها ثلاثة آلاف، والقوات الفرنسية الغازية التي يتجاوز عديدها تسعة آلاف والمدججة بالأسلحة، كان يوسف العظمة يشرف على المعركة ويوجّهها في الخط الأمامي إلى أن أصابته إحدى الدبابات بنيرانها فسقط شهيداً مؤكداً أن طريق الحرية لابد أن يُعمّد بالدم، وبعدها تقدمت القوات الفرنسية باتجاه دمشق.
بالمقاييس العسكرية من حيث العدد والعدة والعتاد، تمّت خسارة المعركة، أما بالمقاييس الأخلاقية والوطنية حيث الكرامة والسيادة والتاريخ، ربحها البطل يوسف العظمة كاملة، وربحها رفاقه والوطن، كان وزيراً للحربية آنذاك وضابطاً متمرساً يدرك الفارق الهائل في موازين القوة بين فرنسا الدولة “العظمى” المدججة بكل أصناف الأسلحة وأحدثها، وسورية البلد الخارج للتو من حقبة استعمارية عثمانية انكشارية مظلمة امتدت أكثر من أربعة قرون، وكان يدرك جيداً أن فصائله القليلة والمتواضعة عدداً وعدة ستخسر المعركة، وأن جحافل الغزاة لن تلبث أن تدخل دمشق وتحتل البلاد، لكن الرجل ورفاقه أرادوا لبلادهم أن تربح التاريخ، وقد ربحته، أرادوا القول: لا هدنة ولا مساومة على الكرامة، وأن السيادة تكون كاملة أو لا تكون، وأن السلام ليس مرادفاً للتفريط والاستسلام، لم تكن ميسلون هزيمة، بل كانت حجر الأساس لمقاومة استمرت حتى جلاء القوات الفرنسية الغازية من بلادنا، لقد ذهب البطل يوسف العظمة ليكتب صفحة المقاومة الأولى فحقق ما يسمى وعي المسؤولية كحالة وطنية، والإحساس بالمسؤولية كحالة تنفيذية، وتحولت معركة ميسلون إلى قيمة تاريخية ونضالية، وتحوّل يوسف العظمة إلى أنموذج وبطل قومي، قدمت ميسلون درساً مفاده أن وطناً يتصدى لجحافل دولة استعمارية غازية يمكن أن يخسر جولة عسكرية، لكنه لا يمكن أن يخسر روح المقاومة، كما أعطى البطل يوسف العظمة كقائد عسكري المثل الأعلى في الوطنية برفضه الانصياع لأوامر الغزاة وإنذاراتهم مفضّلاً الموت على الاستسلام لمشيئة الغاصب المحتل، وها هي ميسلون جديدة يسطّرها أبطال الجيش العربي السوري بقيادة القائد المفدى السيد الرئيس بشار الأسد بانتصاره على قوى الإرهاب ومموليهم وداعميهم.
لقد كانت معركة ميسلون ملحمة بطولية انتصر فيها العرب السوريون على الفرنسيين انتصاراً معنوياً ساحقاً تضاءل أمامه الانتصار العسكري الفرنسي البغيض، وبرزت موقعة ميسلون بمثابة رسالة للغزاة خطّ فيها شعبنا ملامح المواجهة المقبلة ضد الطامعين بخيرات سورية، إن الشعب الذي استطاع بإمكاناته المتواضعة وإرادته القوية أن يطرد المستعمر عن أرض سورية الغالية، هو الشعب القادر على استعادة كل شبر من أرضه التي دنستها قطعان الجهل والتخلف، عصابات السفاح العثماني أردوغان، وهو الشعب القادر على استعادة جولانه الغالي، وما أشبه اليوم بالأمس، فلئن كانت ميسلون قبساً، فالجولان وعد على اللقاء بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد.