بين حلم العصفور الدوري وطموح البجعة!!
سنان حسن
يبدو واضحاً من خلال السجال الذي يكاد يكون مسلسلاً يومياً بين بكين وواشنطن، أن الدبلوماسية الصينية تلعب على إيقاع “النرفزة” الأمريكية وتردّ بطريقة هادئة تظهر بوضوح أنها تدرك أبعاد التحرك الأمريكي نحوها ومحاولة محاصرتها، ولعل ما ورد من مواقف خلال الاتصال الهاتفي بين وزير الخارجية الصيني وانغ يي ونظيره الروسي سيرغي لافروف، وتوصيف الحملة الأمريكية بـ “الماكارثية الجديدة”، يبين ذلك ويؤكد أن قواعد اللعبة تغيّرت وما جرى في ستينيات العقد الماضي لن يتكرّر، أقله ما عبّر عنه وانغ يي بقوله: “لن ننجر إلى حرب باردة”، بمعنى أدق أن البلطجة الترامبية الوقحة لن تنجح في جرّ الصين إلى ذلك.
خلال العقد الأخير من السياسة الأمريكية الخارجية بدا جلياً تراجع فرص التدخل العسكري المباشر على حساب استخدام المرتزقة، كما يجري في العراق وسورية، أو من بوابة الحرب الناعمة، ومع إدراك المؤسسات الحاكمة مدى الخطر القادم من الشرق الأقصى المتمثل في الصين، كان حرياً بالمؤسسات ووكالات الأمن القومي الأمريكي أن تلجأ إلى الاستعانة بأدوات الحرب الباردة لكبح جماح التقدّم الصيني المطّرد، وهذا هو الأمر الأول، وربما كان فيروس كورونا هو المفتاح، فلا يكاد يمرّ تصريح لمسؤول أمريكي، وفي المقدمة ترامب، دون أن يتم توجيه الاتهام إلى الصين بأنها هي السبب في كل ما يجري في العالم، أولاً: لتبرئة ساحته الداخلية بعد الفشل الذريع في إدارة الملف الصحي والكوارث التي حصلت وما زالت في مواجهة الفيروس، وثانياً: لتأليب الرأي العام الدولي عليها وشيطنتها وتحميلها التبعات الناجمة عنه.
والأمر الثاني: إعادة استخدام مفردات الحرب الباردة ذاتها التي كانت تُقاد ضد الاتحاد السوفييتي حينها، والتي عرفت بـ “الأساليب المكارثية”، حيث تم التركيز في العقوبات التي تصدر بحق المسؤولين الصينيين على ذكر أنهم أعضاء في الحزب الشيوعي الصيني لضرب رمزية الحزب في الصين والعالم من جهة، والأخطر أدلجة الصراع وإعطاؤه بعداً آخر لاستنهاض العصبيات في مواجهته من جهة ثانية، وهو نهج استخدمه ترامب حتى في مشكلاته الداخلية عندما وصّف حركة “أنتيفا” اليسارية بالمنظمة الإرهابية، فبعد الشيوعية السوفييتية جاء الدور لتقوم أمريكا “حمامة السلام” في دحر الشرّ الجديد المتمثل بـ “الشيوعية الصينية”!
والأمر الثالث: هو محاصرة الصين بداية من بيتها الداخلي وما يجري من تعامل مع مسألة هونغ كونغ والإيغور مثلاً، مروراً بمحيطها الكوري الجنوبي والياباني، وليس انتهاءً بمحاصرتها في الأسواق التي وصلت إليها شركاتها التكنولوجية العملاقة، والحملة الشرسة على شركة هواوي، تؤكّد ذلك، حيث تضغط واشنطن بكل ثقلها لإرغام الحكومات الحليفة على فك التعاقد معها كما فعلت بريطانيا وفرنسا.
والحال أن السياسة الصينية، أمام كل تلك المحاولات الأمريكية، تمكّنت من حشر الولايات المتحدة الأمريكية في زاوية ضيقة، حيث لا تستطيع إدارة ترامب جر الصين إلى سيناريو الحرب الباردة، وفي الوقت نفسه لا تستطيع تسخين المشهد أكثر من ذلك، لأن وضع واشنطن دولياً في هذا التوقيت بالذات لا يسمح لها بمزيد من الضغط على الاقتصاد الأمريكي المتداعي بفعل الأزمات المتلاحقة وأخرها كورونا. وما بين الانفعال الأمريكي والهدوء الصيني فإن ما ذكرته المتحدثة باسم الخارجية الصينية ساخرة من المواقف الأمريكية اليومية من أنه “لا يمكن لعصفور دوري صغير أن يفهم طموح بجعة” يختزل المشهد. فهل يعي ساكن البيت الأبيض ما نطقه التنين الصيني بهدوء، أم أن بلطجته وعناده وتعصبه ستقوده إلى الاحتراق بناره؟