وجهة نظر ألمانية حول إعادة إعمار سورية
د. مازن المغربي
يٌعد المركز الألماني للدراسات الأمنية والشؤون الخارجية واحداً من أهم خزانات الفكر في أوروبا حيث أن هذا المركز يقدم استشارات سياسية لصناع القرار ويتركز عمله بشكل أساسي في تقديم خدماته للحكومة الألمانية وللبوندستاغ، أي البرلمان الاتحادي. كما يقدم خدماته للاتحاد الأوروبي ولحلف شمال الأطلسي ولمنظمة الأمم المتحدة، ويعمل لصالح المركز حالياً قرابة مئة وثمانين شخصا يشكلون فريق العمل الخاص بالمركز ويتردد على المركز سنوياً قرابة سبعين باحثاً زائراً وبالتالي فإن ما يصدر عن المركز يعطي مؤشرات عن توجهات الحكومة في برلين وهذا أمر يتسم بأهمية بالغة لا سيما أن الدراسة التي سيتناولها هذا المقال تتعلق بانعطافة حقيقية في التعامل مع الأزمة السورية.
نشر المركز في شهر نيسان الماضي دراسة لمورييل آسيبورغ الباحثة الرئيسية في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبغض النظر عن تأييد أو رفض محتوى الدراسة يظل من الضروري الاطلاع عليها لأنها تعكس وجهة نظر شديدة القرب من توجهات الحكومة الألمانية وتسمح لنا بتوقع استمرار الضغوطات بشكل مختلف وأكثر تنوعاً لأن الاتحاد الأوروبي يراهن على عامل الوقت، وعلى واقع عدم امتلاك حلفاء سورية الموارد الكافية لتمويل إعادة إعمار شاملة ومنهجية.
بدأت الدراسة بإقرار صريح بانتصار الدولة السورية على خصومها على الأرض بعد إعادة فرض سلطة الدولة على معظم أراضي البلاد وعلى أن بسط سيطرة الدولة على كامل التراب الوطني ليست سوى مسألة وقت. ورأت الكاتبة أن تكلفة إعادة الإعمار تتراوح، وفق مصادر مختلفة، بين مئتين وخمسين وأربعمئة مليون دولار أمريكي بل يمكن أن تصل إلى ألف مليار دولار. ووفق رأي الكاتبة فإن سورية تقف في مواجهة مشاكل هائلة مثل تطهير الألغام، و تراجع قيمة العملة الوطنية، وتدمير البنى التحتية، والخسارة الهائلة في القوى العاملة نتيجة الحرب والهجرة، وإعادة الخدمات العامة. وجاء في الدراسة أن عملية إعادة الإعمار بدأت فعلياً إنما ليس على أساس وجود رؤية عامة تم ترجمتها إلى استراتيجيات وسياسات وبرامج، بل من خلال جهود محلية تفتقد للتنظيم والتنسيق، وأن الحكومة أعلنت بوضوح عدم رغبتها في التعامل إلا مع الدول الصديقة لكن الكاتبة كتبت أن أصدقاء الحكومة السورية لا يمتلكون الرغبة ولا القدرة على تنفيذ عملية إعادة إعمار وفق المعايير الأوروبية. بالمقابل أعلن الاتحاد الأوروبي إصراره على ربط التزامه بإعادة الإعمار بالتوصل إلى حل سياسي يتضمن إدخال تعديلات جوهرية على بنية الدولة في سورية الأمر الذي أدى في واقع الأمر إلى حرمان الاتحاد الأوروبي من امتلاك أي تأثير ملموس على مسار تطور الأوضاع في سورية على الرغم من تراجع المطالبة بتغيير النظام أو تقاسم السلطة. وقالت الكاتبة أن هدف الدراسة هو صوغ رؤية تسمح بمواءمة مواقف دول الاتحاد الأوروبي مع الواقع الميداني والتخلي عن العقوبات والقيود التي تسببت بمفاقمة معاناة الشعب السوري. ودعت إلى قيام دول الاتحاد بالمساهمة في إعادة تأهيل البنى التحتية في المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة السورية. واستعرضت الدراسة مواقف مختلف الدول المهتمة، بدرجة أو أخرى، يإعادة إعمار سورية مثل روسيا، وإيران، وتركيا، والصين، وبلدان الخليج العربي.
وفي ما يتعلق بشروط إعادة الإعمار رأت الكاتبة أن الشرط الأول هو توفير فرص التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع السوري. وانتقلت بعدها لاستعراض الأضرار التي لحقت بسورية وأصابت بشكل رئيس قطاع الطاقة، وشبكة توزيع الكهرباء، والطرق، والمستشفيات، ومؤسسات التعليم، والأحياء السكنية، والزراعة.
وأشارت الدراسة إلى أن مصادر الأمم المتحدة قدرت عام 2019عدد المباني المتضررة بما يقارب مئة وأربعين ألف مبنى في حين قدرت دراسة أخرى للأمم المتحدة في 2018 حجم الخسائر بثلاثمئة وثمانية وثمانين مليار دولار أمريكي. وانتقلت الكاتبة إلى موضوع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية وتركيا وتداعياتها. وبعد هذه المقدمة الطويلة عرضت الكاتبة وجهة نظرها تحت عنوان لا إعادة إعمار في غياب انفتاح سياسي بدأتها بالإشارة إلى أن موضوع المساهمة الأوروبية في إعادة إعمار البلاد لم يناقش حتى الآن بشكل جدي داخل الاتحاد الأوروبي خوفاً من تعزيز الانقسامات التي تعصف بالاتحاد. وأشارت إلى أن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تتمسك حتى الآن بتجديد العقوبات على دمشق في حين أن جمهورية التشيك لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع سورية، واكتفت بلغاريا بتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي. كما أن بعض الدول مثل إيطاليا وبولونيا أقامت اتصالات مع شخصيات رسمية سورية، بالإضافة إلى أن بعض الدول الأوروبية مثل النمسا وهنغاريا وبولونيا ناقشت فكرة إعادة فتح سفاراتها في دمشق وطرحت مشروع تعزيز العلاقات الاقتصادية مع سورية. ويعود هذا جزئياً إلى واقع أن هناك شركات أوروبية مهتمة بالمساهمة في الاستثمار في إعادة إعمار سورية.
وخلصت الكاتبة إلى أن الموقف الأوربي الذي تم صوغه من خلال تبني فكرة تغيير الوضع السياسي في سورية لم يعد واقعياً نتيجة لتغير موازين القوى على الأرض وأن على الدول الأوروبية المساهمة في إعادة الإعمار، و إعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق و رفع العقوبات المفروضة على البلاد في حال رغبت دول الاتحاد الأوروبي في امتلاك تأثير على تطور الأوضاع في سورية، لأن تقييد السفر إلى سورية والاستمرار في مقاطعتها لن يغير الواقع الميداني الذي نجحت الحكومة وحلفاؤها في تثبيته. ورأت الكاتبة أن الأزمة الاقتصادية الحالية في سورية لن تؤدي إلى تغيير سياسي. وحذرت الكاتبة من احتمال أن تسير الأزمة باتجاه تجدد المواجهات العنيفة وما يرافق ذلك من انتعاش الإرهاب وتدفق اللاجئين على أوروبا، لذا أوصت بأن تبذل الدول الأوروبية قدر ما في وسعها للمساهمة في إعادة إعمار البنى التحتية حتى في المناطق الخاضعة لحكومة دمشق، كما اقترحت رفع العقوبات التي تعيق إعادة الإعمار. وكتبت أن تحقيق هذا سيفرض تعاوناً مع الحكومة السورية على المستوى التقني كحد أدنى وهذا أمر سترى فيه حكومة دمشق اعترافاً غير مباشراً بشرعيتها. ورأت أن تحقيق استقرار حقيقي سيتطلب من الأوروبيين تقديم المزيد بهدف الحصول على المزيد دون الوصول إلى مرحلة تطبيع العلاقة مع القيادة السورية. واقترحت الكاتبة أن يقدم الأوروبيون عرضاً مغرياً إلى حد يصعب أن ترفضه الحكومة السورية، فبدلاً من أن تكون مساهمة الأوربيين عبر منظمات الأمم المتحدة العديدة وعبر المنظمات غير الحكومية المتنوعة اقترحت أن يخصص الأوروبيون جزء من مساعداتهم في إعادة إعمار البنى التحتية الأساسية في مدينة تعرضت لدمار شديد ويكون ذلك بمثابة مثال عما يمكن للأوربيين القيام به.
وأقرت الباحثة بأن الأوروبيين يواجهون في حقيقة الأمر معضلة، فهم غير قادرين على المساهمة في إعادة إعمار البنى التحتية بالتعاون مع دمشق ولا هم قادرون على القيام بذلك دون موافقة دمشق لذا اقتصرت مساهماتهم حتى الآن على المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة لكن هذا لن يستمر طويلاً لأنه من المرجح إعادة بسط سلطة الدولة على كامل الأرض السورية باستثناء بعض المناطق التي استقرت فيها تركيا حيث لا مكان للمساهمات الأوروبية لأن تركيا تسعى لأن تمر المساعدات الدولية عبر أقنية تركية وأن يكون إعادة إعمار تلك المناطق من تنفيذ شركات تركية. وخلصت الكاتبة أن على الأوروبيين دعم مبادرات المجتمع الأهلي في مناطق سيطرة الدولة وأن على الأوروبيين بناء مبادراتهم بالاستناد إلى احتياجات الشعب السوري بعيداً عن الاعتبارات السياسية. وشددت الباحثة على أن رفع مستوى حياة السكان في سورية هو شرط لازم لتشجيع اللاجئين على العودة إلى بلادهم . كما ركزت الكاتبة على واقع أن العقوبات الاقتصادية تعيق تعافي الاقتصاد السوري وبالتالي تقطع الطريق أمام إمكانية إعادة الاستقرار الذي هو عامل رئيسي في عملية إعادة الإعمار. ويبدو أن هناك مؤشرات على تغيير في الموقف الأوروبي يجب استثمارها بأفضل الطرق لمصلحة مشروع الإصلاح الذي ينتظره السوريون.