سنبقى حيث نحن فالأشرار لا يحبون الغناء
لا أعلم لماذا كلما حضرت حفلة موسيقية راقية من مقام (أوركسترا صَبا) التي حضرتها مؤخراً، في ختام مهرجان حماة الثقافي الثاني، على مسرح دار الأسد للثقافة والذي أقامته مديرية الثقافة في حماة، تنبسط أمامي أسئلة جمة حول ماهية الموسيقى وعلاقاتها المتواشجة مع الروح، النفس، العقل، القلب.. الخ وذلك لما تتركه من ألق وبهاء وحبور في نفس الإنسان..
الموسيقى تلك المفردة الحنونة البهية، أو تلك الحالة الشفيفة الروحانية التي تتركها في داخلنا فنؤول أطفالا يتامى نبكي على جثامين آبائنا حينا وحينا عشّاقا ثملين وأسراب فراش نهيم في حقول ضوء ونور الموسيقى التي تخرجنا من مآسي الزمان، تحملنا على جنحي غمام وتمطرنا قمحا وأرغفة وينابيع حقيقة وأنا أستمع لما قدمته هذه الفرقة الباذخة والقادمة من حلب العراقة والأصالة والمجد، خلت أننا جميعا في معبد سوريّ قديم نرتّل القداديس الأولى التي رتّلتها أمنّا سورية حين مصاب جلل فكان الله معها مع أبنائها الخلّص وما زال وسيبقى موسيقى بمقطوعات غنائية وصوت مهيب وألحان مدهشة ألهبت أبناء المكان.. أبناء حماة فحوّلتهم إلى عصافير يطيرون بفرح وسلام.
كنت مأخوذا ومشدودا وبدهشة لا تقل عن ما قدمته هذه الفرقة الراقية تجاه الحضور الراقص منتشيا.. الحضور الذي ملأ الصالة عن بكرة أبيها غير عابئ بمفردات الحرب والقهر والفقد والجوع. هذا الحضور وهذه الفعاليات تؤكد حقيقة لطالما رددناها وتغنينا بها بأننا نحن كسوريين لا يمكن إلا أن نكون كما شاء الله لنا أن نكون لأننا أبناء الحياة.. عشاقها وصناعها. نحن السوريين حين سماعنا الموسيقى نؤول حماما يحوم.. غماما تهاطل قمحا وخبزا وأناشيد ودمى لأطفال يتمتهم الحروب.
فرقة (أوركسترا صبا) بقيادة المايسترو شادي نجار أرسلت رسالة قوية لطغاة العالم وسادة الحروب بأن سورية منتصرة بموسيقاها، بحضارتها، بشعبها، بثقافتها، فرقة أعادتنا ولأكثر من ساعة إلى أطفال وعشاق ومحاربين، رددنا معا (أول مرة تحب يا قلبي – لما بدا يتثنى– نويت اسيبك– العزوبية – طلّوا حبابنا – بكتب اسمك يا حبيبي ..الخ)
شكرا لمديرية الثقافة في حماة على كلّ ما تقدّمه لتعزيز ثقافة الحياة والمحبة التي تليق بسورية وبالسوريين، والشكر الأهم لأبناء حماة الذين قرأت في عيون أطفالهم ما قرأته في عيون أبناء الفرات وقاسيون والبحر من مفردات الإيمان والإصرار والفداء والتضحية في سبيل سورية بحجم ضحكاتهم وخفقات قلوبهم.. هكذا كنا وسنبقى نقيم في سوريتنا ونغني وننشد الأناشيد ونرقص على إيقاع ينابيعها وبوح حقول قمحها ولا بد من أن يرحل الأشرار والطغاة عنا وعنها لأنهم لا يحبون الغناء.
عباس حيروقة