فصل العولمة الجديد
عناية ناصر
يدور اليوم في العالم جدل ساخن بشأن تعريف العولمة وأهميتها على مستويات مختلفة، وهذا ما يترك الناس في حيرة، وحسب قول عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جيدينز: “الحداثة عولمة بطبيعتها”، وبالتالي يمكن فهم العولمة على أنها توسع للحداثة من المجتمع إلى العالم، لدرجة أنه يتم اعتبار الأكاديميين الذين فشلوا في استيعاب العولمة في العقود القليلة الماضية بأن الزمن قد عفا عليهم، وأنهم لا يحيطون بشيء من القضايا الجارية.
لكن الحداثة نفسها عرضة للتغيير، لأن ما كان مرتبطاً بالحداثة اليوم قد يكون “قديماً” و”غير ذي صلة” غداً، خاصة أن الجيل التالي للحرب العالمية الثانية قد بنى العديد من النظريات والكلاسيكيات على مفهوم العولمة، ما جعل هذا المفهوم مدركاً كلاسيكياً، ولكن، مع تقدم الزمن، ودخول العالم إلى منطقة تنمية جديدة، نرى أن السياسات الوطنية لاتزال متجذرة في التنمية المستدامة للعولمة، من ناحية أخرى، تواجه العولمة أيضاً تحديات كبيرة وظواهر متناقضة تتسبب في تحوّل هذه التناقضات إلى صراعات عنيفة وغير واقعية في بعض الأحيان.
حالياً، هناك الكثير من التصوّرات المضللة في العالم تجاه العولمة، فكيف يجب أن نتعامل مع العولمة؟ كيف نتكيف مع التحديات الضخمة للعولمة المعكوسة؟ هذه بعض القضايا الرئيسية التي لابد من الإجابة عنها.
للإجابة عن هذه الأسئلة، توصل مركز ANBOUND للدراسات إلى استنتاجات مختلفة بناء على النظريات ووجهات النظر الحالية تم إيرادها في التقرير الاستراتيجي المنشور حديثاً بعنوان “ماضي العولمة وحاضرها”، يوضح التقرير أنه يجب تعريف العولمة وفهمها في إطار شامل، وليس فقط على مستوى معين يعمل على تجزئة وتوطين القضايا العامة مثل إعطاء سرد افتراضي لـ “عولمة الاقتصاد”، وكما يشير استنتاج التقرير فإن العولمة منحنى له قمم وقاع، ويجب تعريف “العولمة العكسية” التي يتحدث عنها الناس عملياً على أنها مرحلة انعكاس لمنحنى العولمة، وأن القوة الدافعة الأساسية للعولمة هي قوة رأس المال، وبسبب هذا العامل الديناميكي فإن قوة رأس المال لا تتضاءل، كذلك ستستمر العولمة في المضي قدماً بعد انتهاء مرحلة العولمة المعكوسة.
يجب التأكيد على أن مراحل العولمة العكسية ستحدث لفترة طويلة، وربما تستمر لعقود، حيث تشير التوقعات إلى العديد من الظواهر الجيوسياسية المزعجة التي ستحدث كثيراً خلال هذه الفترة، وهي: “التقشف الاقتصادي- الصراعات الجيوسياسية الكبيرة- إعادة الهيكلة الصناعية- السياسة ذات الميول المتطرفة- المد الاجتماعي على حساب النخب- ظهور مساحات مكتشفة حديثاً- زيادة في التكاليف الاجتماعية- ارتفاع إجمالي السعر الاجتماعي- تجزئة الفضاء العالمي”، هذه التوقعات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالديناميكيات الاجتماعية الفعلية، وتسمح لنا بفهم المراحل بشكل أفضل، وبالإضافة إلى ذلك، هناك ثلاثة احتمالات بشأن اتجاه التنبؤ في خصائص العولمة العكسية:
أولاً: سوف تتحرك العولمة المستقبلية نحو الهيكلة الإقليمية، وتظهر سمات إقليمية قوية يدعمها مفهوم التجزئة المجزأة، صحيح أن العولمة هي عملية تكامل، لكن العولمة العكسية هي عملية تجزئة، لأنها تمثّل عملية تراجع التكامل والتجزئة وتغييراتها انعكاساً لتغيير العولمة من القمة إلى الحضيض، هذا هو في الأساس اتجاه العولمة المعكوسة في المستقبل.
ثانياً: سوف تؤدي العولمة العكسية حتماً إلى ضرر اجتماعي، وهذا هو المجال الذي سترتفع فيه العولمة المعكوسة دون سابق إنذار نتيجة للتراكم طويل الأمد في التناقضات والضغوط، وقد تنتشر العواقب مثل التأثير والضرر الناجم عن الحركات الاجتماعية غير العقلانية إلى مختلف البلدان، وعندما تتجاوز تكلفة الضرر الاجتماعي قدرة تحمّل البنية الاجتماعية، قد يؤدي ذلك إلى حروب ونزاعات، كما أن هناك تغييراً مثيراً للاهتمام ومحتملاً من المهم ملاحظته هو تبعات بعض الصراعات العنيفة التي قد تؤدي إلى انهيار بعض القوى السياسية، وخروج العالم من العولمة المعكوسة والبدء بعملية العولمة من جديد.
ثالثاً: إن العولمة المعكوسة هي حقبة نقل الثروة الكبيرة، ويمكن تحقيق هذا التحويل على نطاق واسع من خلال سوق رأس المال، أو الاستثمار الصناعي، أو حتى من خلال وسائل أخرى مثل الاستثمار الفني، وأثناء نقل الثروة، قد تسقط بعض نظريات الاستثمار التقليدية في سوق رأس المال، وقد يتم استبدالها بعدد كبير من أنشطة المضاربة والمضاربات الاستثمارية القائمة على أمن الثروة، إن جوهر العولمة هو رأس المال، وأكبر قوة مقاومة للعولمة هي رأس المال أيضاً.
إن عمليات العولمة والعولمة المعكوسة غير منطقية، لأن العولمة نفسها هي اتجاه عالمي تم بناؤه من خلال التفاعلات السياسية والصناعية ورأس المال بين دول متعددة، لذلك تكون المحددات دائماً خارجية، وينطبق الشيء نفسه على العولمة المعكوسة، العوامل الخارجية هي العوامل الحاسمة، لذلك ستؤثر جميع دول العالم بها وتتأثر، بالإضافة إلى عدد قليل من الاقتصادات المستقلة في العالم مثل دولة سويسرا، أما بالنسبة للبلدان التي تحاول التهرب من تأثير العولمة العكسية بأي ثمن، فمن المحتمل أن تكون عملية السياسة الوحيدة هي “العزلة الذاتية في العصر الجديد”، بحثاً عن قدر أكبر من الاستقلال الصناعي ورأس المال، مثال على ذلك الولايات المتحدة التي بدأت هذه الإجراءات في وقت مبكر نسبياً.
في ظل مد العولمة المعكوسة، قد تحقق بعض الدول أداء جيداً، بينما قد تقع بعض البلدان في جدل لا جدوى منه، وتبدأ دورة مؤلمة، وهذا سيؤدي إلى اختلالات خطيرة في السياسة، واستهلاك كميات كبيرة من الموارد دون داع، باختصار، يُعتقد أن المستقبل قد تغير، وبدأ فصل جديد في التاريخ.