دراساتصحيفة البعث

تنافس حامي الوطيس على الساحة الليبية

هيفاء علي

بعد تسع سنوات على التدخل العسكري الغربي في ليبيا، لا تزال البلاد تترنح تحت وطأة حرب أهلية تؤجّجها قوى دولية وإقليمية تتنافس فيما بينها وتتسابق لوضع يدها على الثروات النفطية الليبية، لتغدو برميل بارود على وشك الانفجار في الضفة الجنوبية لأوروبا.

تطورات الأسابيع القليلة الماضية توحي بأن الفاعلين في الأزمة يقتربون كل يوم من نقطة اللا عودة، حيث تداولت مواقع إخبارية عدة ومنصات للتواصل الاجتماعي صوراً، لم يتمّ التأكد بعد من مصدرها، لكن قيل إنها مُلتقطة بواسطة الأقمار الصناعية لبعض المنشآت العسكرية جنوب مدينة مصراتة الليبية. المثير هو أن أسطح المباني التي تشرف عليها إيطاليا كتب عليها اسم إيطاليا باللغة الإنكليزية بحروف بارزة، ما جعل بعض المعلقين يستنتج أن ضربات جوية على وشك الوقوع، وإيطاليا تحاول بذلك حماية منشآتها بجعلها بارزة من الجو، الأمر الذي أشعل التكهنات بشأن قرب اندلاع حرب شاملة قي ليبيا.

عجز أوروبي

في الأسابيع الأخيرة حدثت تطورات عدة، أهمها قيام النظام التركي بالتجهيز مع حليفه “حكومة الوفاق” برئاسة فايز السراج لمعركة قد تعيد خلط الأوراق في الشرق الأوسط، وذلك عبر إرسال عتاد من كل الأنواع، كالمصفحات العسكرية وأنواع مختلفة من الأسلحة، منها أنظمة دفاع جوي متطوّرة، فيما يقدّم طاقم من المستشارين العسكريين والقوات الخاصة التركية المشورة للسراج.

عدد من المعلقين الألمان دعوا أوروبا للاستعداد لسيناريو حرب إقليمية غير محمودة العواقب في الضفة الجنوبية للمتوسط. غيدو شتاينبيرغ، الخبير الألماني في شؤون الأمن والإرهاب والباحث في مؤسّسة العلوم والسياسة في برلين، انتقد اختزال الاهتمام الألماني بالأزمة الليبية من زاوية تدفق اللاجئين ليس إلا، واعتبر أن ما يحدث هناك يهمّ الأمن الأوروبي برمته. وأكد أن  أوروبا تحاول منذ بضعة أشهر العمل بشكل مكثّف على الملف الليبي، ولكن بات من الواضح مدى ضعف الاتحاد الأوروبي، بمجرد أن تخلّت الولايات المتحدة عن الاهتمام بليبيا، وليست هذه المرة الأولى التي يُظهر فيها التكتل القاري ضعف سياسته الخارجية، ذلك أن الدول الأعضاء منقسمة في مواقفها ولها أحياناً مصالح متناقضة في ليبيا، كما يتجلّى ذلك في الخلاف الفرنسي الإيطالي على سبيل المثال لا الحصر.

كانت الفرقاطة “هامبورغ” غادرت ميناء فيلهل مسهافن الألماني في الرابع من آب في مهمّة تستغرق خمسة أشهر في عرض البحر الأبيض المتوسط قبالة السواحل الليبية، حيث يشارك 250 جندياً في مهمة “إيريني” الأوروبية لمراقبة حظر الأسلحة على ليبيا من قبل مجلس الأمن لدولي، إضافة إلى جمع المعلومات حول صادرات النفط غير القانونية ومنع التهريب، وهي مهمّة في غاية الصعوبة والتعقيد عسكرياً وسياسياً. ومن المقرر أن تعود “هامبورغ” إلى قواعدها في فيلهل مسهافن في 20 كانون الأول من العام الجاري.

وإضافة إلى استعمال السفن وطائرات الاستطلاع والأقمار الصناعية لرصد حظر الأسلحة، تدعم ألمانيا عملية “إيريني” منذ شهر أيار الماضي بطائرة استطلاع بعيدة المدى من طراز P-3C Orion، والتي أنجزت حتى الآن نحو 20 طلعة جوية.

يذكر أن ألمانيا وفرنسا وإيطاليا لوّحت بفرض عقوبات على الدول التي تنتهك حظر الأسلحة على ليبيا. وجاء التهديد بمبادرة من فرنسا بعد أن منعت سفينة حربية تركية فرقاطة حربية فرنسية من تفتيش سفينة شحن مشتبه بها. ووفقاً للوصف الفرنسي، فإن السفينة التركية وجهت راداراها إلى الفرقاطة الفرنسية كرادع، وهي المرحلة التي تسبق عادة إطلاق النار في عرف سلاح البحرية، وهو ما اعتبرته باريس في حينه عملاً عدوانياً.

أطماع السلطان العثماني الجديد

يعمل أردوغان على تعزيز القدرات العسكرية لبلاده بكل الوسائل، في محاولة يائسة منه لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية بجعل تركيا قوة عالمية. فمن وجهة نظر أردوغان فإن ليبيا تحتل أهمية إستراتيجية قصوى لأنها تملك أكبر احتياطي نفطي في أفريقيا، إضافة لدورها كدولة معبر للمهاجرين من جميع أنحاء العالم الذين يسعون للتوجه إلى أوروبا. كما أن الاتفاق البحري المثير للجدل بين البلدين قد يمنح تركيا إمكانية الوصول إلى مخزون الغاز الطبيعي المفترض وجوده في البحر الأبيض المتوسط، والذي كان سبباً في توتر العلاقات مع اليونان، إذ تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها في ليبيا، إذ أنشأت قوة من المرتزقة الإرهابيين، كما يوظف أردوغان ضد الاتحاد الأوروبي قرابة 3.6 ملايين لاجئ مستقرين في تركيا كأداة ضغط، بل وكسيف مسلّط على عنق التكتل القاري، وهو الذي استعرض عضلاته في بداية العام، حين جلب عشرات الآلاف من اللاجئين، ومن جنسيات مختلفة، إلى الحدود اليونانية، ما أجّج أزمة لاجئين جديدة.

الدور الفرنسي في المشهد الليبي

على الرغم من أنها تقدم نفسها كلاعب دبلوماسي موثوق به في هذا البلد، الذي مزقته الحرب، إلا أن باريس تسعى وراء مصالحها الاقتصادية والأمنية بأي ثمن، واتبعت نهجاً حازماً لتحييد منافسيها ووضع نفسها ككيان مؤثر مهيمن في ليبيا، وهي تسعى الآن لتقويض دور تركيا، متجاهلة الحاجة الملحة لوحدة دولية لحلّ الصراع الليبي.

ويلفت المحلّلون إلى أن دعم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي للعدوان العسكري الغربي على ليبيا عام 2011 كان مدفوعاً بالرغبة في استعادة مكانة فرنسا كقوة عسكرية أوروبية مهيمنة. وعندما غرقت ليبيا في حالة عدم الاستقرار، سعت فرنسا إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية والأمنية، وبدأت في دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر بالمعدات العسكرية ودربته، حيث رأت في هذا القائد الطموح  شريكاً رئيسياً في ضمان “الاستقرار” ضد التطرف، وفي النهاية، بتأمين المصالح الاقتصادية لفرنسا، مثل عمليات التنقيب عن النفط وإنتاجه. وفي الوقت عينه، انخرطت فرنسا مع حكومة الوفاق الوطني ورئيس الوزراء فايز السراج.

أدى تدخل النظام التركي منذ بداية العام لتعزيز حكومة الوفاق المحاصرة إلى إفشال خطط باريس الخاصة بليبيا، حيث وقّعت أنقرة وحكومة الوفاق أيضاً اتفاقاً في تشرين الثاني الماضي يمنح تركيا الإذن باستكشاف الساحل الليبي بحثاً عن الغاز، مما يهدّد مصالح فرنسا في شرق البحر المتوسط. وسرعان ما أعربت فرنسا عن إحباطها من مبادرات أردوغان ما آل إلى اندلاع التوترات بين البلدين، وخاصة بعدما وصفت السفارة الفرنسية في اليونان الاتفاق بين حكومة الوفاق وتركيا بأنه “باطل”.

وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد شنّ هجمات لفظية متكررة على أنقرة، حيث قال الشهر الماضي: “أعتقد أن هذه مسؤولية تاريخية وجنائية لدولة تدّعي أنها عضو في الناتو”، مضيفاً أن تركيا تلعب “لعبة خطيرة” بانتهاك جميع التزاماتها التي قطعتها في مؤتمر برلين، واتهم تركيا بالسلوك “العدواني للغاية”.

في الوقت الحالي، من الواضح أن باريس مهووسة بمعارضة وتشويه سمعة تركيا، حيث حذّر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي يُنظر إليه غالباً على أنه القوة الدافعة وراء سياسة فرنسا الخارجية الحازمة، في الأول من تموز الماضي، من أن باريس قد تدعم حتى فرض عقوبات على تركيا. لكن من الواضح أن دور فرنسا في ليبيا لا يقتصر فقط على إبعاد تركيا، حيث تعارض فرنسا أي مبادرة تضفي الشرعية على التدخل التركي، وإنما على إبعاد ايطاليا أيضاً التي تدعم حكومة الوفاق ما يؤكد وجود التنافس بين البلدين.

كلّ هذا جعل الاتحاد الأوروبي عاجزاً في ليبيا، حتى قبل هجوم الجيش الوطني الأخير ودخول تركيا الحرب.