مياه بحر الصين الجنوبي تغلي
إبراهيم أحمد
لا تزال توترات بحر الصين الجنوبي تتزايد شدةً وخطورة، وخاصة بعد إرسال الولايات المتحدة عمداً سفنها إلى المنطقة لاستعراض العضلات ودق إسفين بين الصين والدول الأخرى المتشاطئة على هذا البحر، وثمة مخاوف من أن تتحّول المنطقة، الاستراتيجية والغنية بالثروات، تدريجياً إلى نقطة احتكاك، ويحذّر خبراء من أن عواقب أي صدام فيها قد تكون وخيمة على النطاق العالمي.
يحظى بحر الصين الجنوبي بأهمية إستراتيجية بسبب وقوعه جغرافيّاً في نقطة التقاء طرق المواصلات البحرية الأكثر كثافة في العالم، حيث تمر عبره نصف التجارة الدولية التي يُؤمل بأن تزداد مستقبلاً بشكل مكثّف في ظل الإمكانات السكانية والاقتصادية لدول آسيا – المحيط الهادئ، مع وجود مقّومات أخرى غير الجغرافيا السياسية، في مقدمها إمكانات نفطية وغازية في أعماقه، ربما تؤهله ليكون رديفاً للخليج العربي.
تكمن الإستراتيجية لهذا البحر كونه أقصر الطرق التي تصل بين المحيطين الهادئ والهندي، فضلاً عن كونه يمتاز بوجود أكثر خطوط الملاحة ازدحاماً بحركة السفن في العالم، إذ إن نصف ناقلات النفط العالمية يمر عبر هذا البحر، وأغلبية هذه الناقلات تحمل المواد الأولية كالنفط الآتي من الخليج العربي إلى دول جنوب شرق آسيا، ما جعل بحر الصين الجنوبي يحظى باهتمام الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة.
في كل عام، تمر عبر بحر الصين الجنوبي بضائع تجارية تقدر قيمتها بـ 3,5 تريليونات دولار، وتصل نسبة مشاركة واشنطن فيها إلى ما يقارب 2,1 تريليون دولار. وتتجلى أيضاً أهمية بحر الصين الجنوبي من زاوية النظريات الجيوبوليتيكية المختلفة، كالمقاربة الماكندرية نسبة إلى الجغرافي البريطاني السير هالفورد ماكندر التي تركز على فكرة القلب البري للعالم، وأفكار الجيوبوليتيكي الأميركي نيكولاس سبايكمان ونظريته “ريملاند” (الإطار) ومفادها: “إن من يتحكم في منطقة الهلال الخارجي يستطيع أن يسيطر على مناطق الظهيرة، ومن يسيطر على الأخيرة يسيطر على قلب الأرض وتوسعها، ومن يحد من توسع القلب يتحكم في مسار السلام العالمي”. أما المقاربة الثالثة فمردها إلى الجيوبوليتيكي الأميركي ألفريد ماهان الذي وضع نظرية القوة البحرية التي ترى في البحار مجالاً مُهمّاً لتوجيه سياسات الولايات المتحدة بما يضمن لها تحقيق مصالح الأمن القومي الخاص بها. المقاربة الرابعة متصلة بأفكار الجيوبوليتيكي الأميركي روبرت كابلان، المتمسك بالتفسير الجغرافي لحركة التاريخ والعلاقات الدولية. نراه دائماً يُركّز على حتمية العامل الجغرافي في دفع الصين إلى أن تكون قوة بحرية مهمة على غرار الأنموذج الذي ساهمت الجغرافيا في صناعته من خلال القوة الألمانية – البرية المهيمنة في أوروبا. ويقترح تفعيل القوة البحرية الهندية للتوازن مع الصين، وإشغال الصين بمشكلاتها الداخلية..
منذ أشهر، تستعرض واشنطن، وتحت حجة دعم حرية الملاحة والتحليق، عضلاتها في بحر الصين الجنوبي بإرسال حاملتي طائرات- تحمل كل منهما نحو 60 طائرة، إضافة إلى طرادات ومدمرات الصواريخ الموجهة التي تصاحبهما- إلى هذه المنطقة الحساسة، فيما تقوم الصين بمناورات بحرية وجوية هناك، ويحذّر خبراء من تحوّل المنطقة إلى ساحة مجابهة بين العملاقين في حال حصل أي خطأ.
الصين وصفت حاملات الطائرات الأمريكية بأنها “ليست أكثر من نمور من ورق تقف على أبواب الصين”. وقالت: إن بكين لديها ما يكفي من القوة النارية للدفاع عن مواقعها في بحر الصين الجنوبي. وهذا يعني أن بحر الصين الجنوبي بات في حالة غليان لا يعرف أحد تداعيات الوضع فيه ما دامت الأصابع على الزناد، فيما قال السفير الصيني في واشنطن كوي تيانكاي، في وقت سابق، إن تعزيز الوجود العسكري الأميركي، في بحر الصين الجنوبي، يقوّض الوضع في المنطقة. وأضاف: “لسوء الحظ، تحاول دول مثل الولايات المتحدة، التدخل وإرسال القوات، وتعزز وجودها العسكري في المنطقة”.
إن الخلافات تصاعدت بين دول الإقليم بتحريض أمريكي، إذ إن بحر الصين الجنوبي لا يخرج عن دائرة اهتمام صنّاع القرار الأميركي ومخططي الاستراتيجيات في الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وتصاعدت أهمية هذه المنطقة في الإدراك الأميركي، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة، ومنذ توجه الصين بشكل حثيث إلى بناء قدراتها الدفاعية والتسليحية، بما فيها قدراتها البحرية التي بدأت تتخذ من هذا البحر مجالاً لحركتها. لذا، تجد الإدارة الأميركية نفسها اليوم أمام تحدٍّ جيوبوليتيكي يهدد مستقبل وجودها ومصالحها في هذا البحر، الأمر الذي يؤكد أن بحر الصين الجنوبي سيكون واحداً من النطاقات الجيوبوليتيكية الساخنة التي يتوقف عليها مصير العالم.
إن المستقبل الجيوبوليتيكي لبحر الصين الجنوبي، يطرح عدة سيناريوهات:
سيناريو الواقع القائم، أي استمرار الحال على ما هو عليه بين دول هذا البحر من خلال تمسّك كل منها بنطاقاتها البحرية.
سيناريو التسوية، أي حل الخلافات من خلال التفاوض والتشاور بين الدول المعنية وتحقيق نتائج مفيدة للجميع عبر التعاون متبادل المنفعة.
سيناريو المواجهة العسكرية، أي استمرار التصعيد بين الأطراف الإقليمية والدولية وصولًا إلى مرحلة الصِدام المباشر، ما من شأنه حرق هذا الإقليم وإدخاله إلى مساحة واسعة من الفوضى والاقتتال.