ثقافةصحيفة البعث

أدرينالين: مَسْرَحة الفيلم و”أفلمة” الجمهور

مسرحية “أدرينالين” التي يقدّمها المخرج التلفزيوني “زهير قنوع” -من تأليفه بالاشتراك مع يارا جروج- تشكّل ظاهرة فريدة لم يشهدها العالم من قبل، وهي تحويل نص فيلم سينمائي إلى عرض مسرحي! فما يحدث عادة هو العكس، إجبار النص السينمائي بتحويله إلى فرجة مسرحية، على يد مخرج يفكر ويتخيّل المشهد في كادر الشاشة، تَسبّب بكارثة فنية تُرتكب الآن على خشبة مسرح الحمراء!.

الفكرة بشكل عام تبدو مغرية، استحضار عوالم حداثوية وتكنولوجية إلى فن المسرح القديم، كان تحدياً لم ينجح صّناع العمل أمامه، فظهر الديكور والذي هو مسرح عارٍ مع بعض الكراسي المساعدة ورسم خلفي، وهو يبدو هكذا لأنه يجب أن يكون هناك ديكور ما، وهو على ضعفه فقط تعرّض أيضاً لضربة قاضية أنهت الجدل في مبرراته، وهي الشاشة الكبيرة التي تستعرض بعض الأحداث، حيث لم تظهر كإضافة للفرجة المسرحية المباشرة، بل ظهرت كأنها فيلم آخر ومعرض صور فوتوغرافية، يقع على هامشهما عرض مسرحي، ما هو السبب في كل هذه الورطة؟ هو أن النص الذي من المفترض أن يكون نصاً سينمائياً، كان يمتلك ديكوراً واقعياً في كل مشهد، والذي هو جزء من القصة، على الأقل أن يرى الجمهور بلقطة قريبة شاشة الكومبيوتر، التي تظهر عليها شبكات التواصل مسرح الجريمة المفترضة، وغيره من أمكنة ومكاتب وعوالم ملحقة بالجريمة، هذا الديكور الواقعي تمّ الاستغناء عنه في شطبة قلم، فالديكور الذي يظهر لا يأخذ صفة الديكور “التجريدي” بل يأخذ صفة “اللا ديكور”.

عندما نسمع عن قصة جريمة إلكترونية ستتحوّل إلى فيلم، فوراً يخطر في الذهن أداء متوتر وحركات كاميرا سريعة، وأجواء إضاءة، هذا كله غير مناسب للمسرح، إلا إذا كنّا أمام بداية مسرح “الأكشن والإثارة”. مخرج العمل صرح لوسائل الإعلام بأن الفيلم تمّ رفضه لأسباب رقابية، ما اضطره لتحويله إلى مسرحية، وهنا نحن أمام احتمالين: إما أن الأسباب الرقابية ظلت في النص المسرحي، وهذا يعني أن رقابة المسرح غير رقابة السينما، أو أن المخرج قام بتعديلات عليه لتناسب الرقابة، وهي تعديلات تتحقّق بمجرد تحويلها إلى مسرحية، ببساطة لأن المسرح غير مناسب لهذا الموضوع.

السينوغرافيا شاء صنّاع العمل أم لم يشاؤوا، بقصد أو من غير قصد، هي توليفة من السينوغرافيا التجريدية، إضافة إلى سينوغرافيا “البانتوميم” والتي تكون حركة الممثل فيها تنوب عن الديكور، وتقترح الأبعاد ونقاط الانغلاق والانفتاح على مستوى المكان، كالأبواب والجدران مثلاً، فتظهر في وقفات الممثل وأوضاعه الجسمانية التي تحاكي محددات الفراغ والمساحة، هذا كان أحد أسباب المعضلة، قصة واقعية عن جرائم راهنة، ولكن مع سينوغرافيا “بانتوميم”، ما يُضعف قابلية القصة للتصديق، ويضعها في ورطات محاولة مواكبة الأداء للسينوغرافيا.

الحوار، مع أن القصة حركة وعنف، يحاول أن يحكي القصة بدلاً من أن نشاهدها، ما نشاهده فقط، أداء مبالغ فيه وأصوات مرتفعة أكثر من اللازم، تظهر كضوضاء تعرقل الفرجة على الشاشة الرابضة فوق الخشبة.

الاقتطاعات من الفيلم ليناسب المسرح، لم تكن موفقة، من الواضح أن هناك ما يحدث بالتوازي مع العرض ومن الضروري مشاهدته، لكن هذا لا يحدث، فالقفز من نقطة ذروة إلى نقطة ذروة جديدة دون تمهيد مناسب، يشي بمشاهد بينية مشطوبة، شُطبت ليس لأنها غير مهمة للسردية القصصية، بل شُطبت لأنها غير ممكنة على الخشبة.

ست شخصيات -تبحث عن مؤلف- مع شخصية تظهر على الشاشة، يؤديها ممثلون بعضهم يقدم دوراً مكتوباً كدور واقعي، مثل أن يكون مقيداً بالسلاسل ويهدّد بالسلاح، وبعضهم يؤدي دوراً فانتازياً وفق معايير مدرسة مسرحية محلية اسمها “دبابيس”، مثل الشخصية التي لديها ازدواجية شخصيات، فنرى إلى جانب ذلك العالم الواقعي شخصية تعاني تشظياً في الشخصيات، وهذا ينسف فرضية القصة بالكامل، لأن فيها موضوعاً أهم من موضوع الجريمة الإلكترونية، أو على الأقل يوازيه في الصلاحية بأن يكون محور العمل، وهو قصة نفسية لشخصية تبدو وكأنها مقحمة على العمل، فهل القصة عن شخص لديه تعدّد شخصيات، أم هي عن الجريمة الإلكترونية؟ كان من الممكن أن تنطوي واحدة منهما على الأخرى، ولكنهما تظهران من دون اندماج، وهذا يمثل نقطة ضعف كبيرة في النص.

عملية القص من سيناريو الفيلم، لم تبقِ إلا على القليل منه، وهذا ما دفع إلى إقحام الكثير من التفاصيل لـ”دفش” الصفحات القليلة المتبقية، كي تصل إلى ساعة بشق الأنفس.

الإزعاج الاستفزازي الذي يتعرّض له من يشاهد العرض، هو أنه في كل لحظة يشعر أنه يشاهد تفاصيل عن بُعد، لحظات خوف ورعب وتحوّل شخصية، تظهر من مسافة تجعل المتفرج يشعر كأنه في الشارع وهناك أمامه يقع شجار أو جريمة، لكنه ممنوع من الاقتراب والمشاهدة، وفي الوقت نفسه ممنوع من الانصراف، أي يُسمح له بالمشاهدة لكن دون معايشة التفاصيل، وهنا يصبح المسرح عائقاً أمام الجمهور، لو أن المخرج اتجه إلى أشكال أكثر حداثة، كأن يكون العرض في منزل أو قبو واقعي، كان ممكناً للجمهور أن يقترب ويتوزع حول الحدث، أما على هذه الحالة فقد بقيت المسافة واضحة كخلل لقصة وطبيعة أحداث كانت مصممّة للقطات المتوسطة والقريبة.

أتمنى أن أسأل المخرج: كيف ولماذا اقتنع بتحويل فيلم إلى مسرحية؟ الأسباب الرقابية تبدو غير مقنعة، لأنه ذهب من فن إلى فن آخر، ما حدث في “أدرينالين” يشبه تحويل رواية مرفوضة رقابياً إلى لوحة، أو مسرحية مرفوضة إلى مقطوعة موسيقية، صحيح أن السينما والمسرح يشتركان في القصة والأداء، ولكن، هذا شيء وذلك شيء آخر.

هذا كله يحدث في ظل حضور السيد “كورونا” وحجزه لثلثي المقاعد وفق مزاجه في التباعد، ما تسبّب بازدحام شديد على العرض.

تمّام علي بركات