نساء من الشام /1/.. أليس قندلفت
محمد راتب الحلاق
لم تكن المرأة السورية، ولاسيما الدمشقية، في النصف الأول من القرن الماضي، خصوصاً في مرحلة الانتداب الفرنسي، بالصورة التي حاول بعض صانعي المسلسلات التلفزيونية أن يكرّسوها. كانت تشارك بفعالية في شتى مجالات الحياة، فكانت السياسية والمحاربة والأديبة والشاعرة والصحفية، إلى جانب مهمتها الطبيعية كأم، وللأسف فقد تمّ تغييب ذكر هؤلاء الرائدات، ولم يعدن معروفات حتى من خاصة المثقفين. وسوف أعرف ببعضهن بإيجاز يتناسب مع حجم المقالة الصحفية، مبتدئاً بـ(أليس قندلفت).
ولدت أليس قندلفت عام 1895، حسب السجلات المدنية العثمانية، في دمشق القديمة (محلة القيمرية)، ودرست في المدرسة الأرثوذكسية البطريركية (الآسية)، إلى نهاية المرحلة الإعدادية، ثم انتقلت إلى بيروت وانتسبت إلى القسم الثانوي في الكلية البروتستانتية الوطنية السورية (الجامعة الأميركية حالياً)، وهناك تعرّفت على الدكتور عبد الرحمٰن الشهبندر. وقد أبلغها الشهبندر، الذي غدا وزيراً في حكومة الملك فيصل عام 1919 أن (كينغ كرين)، رئيس اللجنة الأميركية لتقصي الحقائق في سورية، أبلغه بأنَّ الرئيس الأميركي (ويلسون) يهب السوريين منحتين دراسيتين لطالبين لتحضير الماجستير في جامعة كولومبيا في نيويورك، فقال له الشهبندر: إن سورية بأمسّ الحاجة إلى نساءٍ يحصلن على درجات علمية عليا، لذلك فإنني سأستفيد من هاتين المنحتين لإرسال “نازك العابد وأليس قندلفت”.
عادت من أميركا بعد إتمام الدراسة لتعمل مع فارس الخوري، ثم مع الشهبندر بعد عودته من المنفى وحتى اغتياله.
حزنت “أليس” حزناً شديداً بعد اغتيال الزعيم، وكانت تمضي معظم وقتها في فندق أمية القديم (عمر الخيام حالياً) محاطة بنخبة من المثقفين والأدباء والشعراء الوطنيين السوريين من مختلف المناطق السورية.
عبر تاريخها السياسي الحافل لم تنسَ “أليس” اهتماماتها الأدبية التي عُرفت عنها، فأسّست صالوناً أدبياً سياسياً خاصاً بها في فندق أمية القديم عام 1942، يعدّ الأول من نوعه في البلاد، كان يجتمع فيه سياسيو سورية وأدباؤها، ومن هذا الصالون انطلقت الحركات السياسية التي كوّنت بعد ذلك أحزاباً مؤثرة في الحياة السياسية السورية اللاحقة، كما شاركت بتأسيس المنتدى الفكري عام 1946.
اختارها فارس الخوري لتكون ممثلة سورية في هيئة الأمم المتحدة، وبذلك كانت أول امرأة عربية تمثّل بلادها في المنظمة الدولية، وإحدى أوائل النساء على مستوى العالم في المنظمة، وقد سجّلت “أليس” حضوراً مميزاً في أروقة الأمم المتحدة، فالتقت بعدد من ممثلي الدول لحشد التأييد لاستقلال سورية، الذي تمّ في نيسان (1946).
وتؤكد وثائق الأمم المتحدة أن “أليس” من النساء اللواتي لا يُنسى حضورهن، فقد كانت في سنوات عملها في الأمم المتحدة مثالاً حياً لمن يؤمن بقضيته إلى درجة التماهي معها، لأنها قضية وطن يراد به السوء، فقدّمت له من روحها وفكرها أقصى ما تستطيع.
وتحتفظ هذه الوثائق بنشاطات “أليس” مع العديد من الوفود الدولية هناك، فبتاريخ 5 كانون الثاني 1945 حضرت جلسة الأمم المتحدة الثانية الخاصة بأحوال المرأة حول العالم، وقدّمت مداخلتها المتضمنة الحديث عن أوضاع المرأة العربية عموماً، والمرأة السورية خصوصاً، مركزة على الهدف الكبير وهو تحقيق استقلال سورية عن الاستعمار الفرنسي. وفي اللقاء الدولي حول الحقوق الاقتصادية للمرأة، أثناء الاجتماع الأربعين للأمم المتحدة، دافعت عن حق النساء في التملك. ويشهد كلّ من عرفها أنها كانت من السيدات الراقيات جداً، وتنتمي إلى طبقة مثقفة ندر وجودها في العالم العربي وقتئذ، وقد توفيت قي بيروت في منتصف ستينيات القرن الماضي ودفنت هناك.