تغيير الثقافة أم ثقافة التغيير
محمد راتب الحلاق
إذا كان العنوان يشي بالمضاهاة بين طرفيه فإن ثقافة التغيير تشكّل أحد أهم المداخل للخروج من حالة انسداد الآفاق التي تعاني منها الأمة العربية في المجالات كافة. أما تغيير الثقافة، بالمعنى المطلوب من الخارج، فإنه يرمي إلى تقويض الهوية والخصوصية ومنظومة القيم السائدة، لإكراه الأمة على التماهي مع الثقافات الوافدة (ولاسيما ثقافة العولمة). ويتفانى بعض أفراد (النخبة)، وخاصة الليبراليين الجدد، في جعل البحر طحينة، ويرفعون شعارات تطالب بتغيير الثقافة، لأن الحرية والديمقراطية والنزاهة والشفافية وحقوق الإنسان.. لن تتحقّق، بزعمهم، في ظل الثقافة السائدة في الوطن العربي، الممتد من الماء إلى الماء، والمحاصر بظلم ذوي قرباه.
ثقافة التغيير تعبّر عن حاجات داخلية ملحة، لمواجهة الفساد والإفساد والتخلّف في المجالات كافة. أما تغيير الثقافة فمطلب خارجي يدعو إلى التخلي عن القيم العربية ولا شيء غير ذلك، وأرجو ألا يفهم أحد من كلامي أنني أمنح القداسة لما هو غير مقدس، لا لشيء إلا بحكم العادة، أو لأن هذه القيم قد وردت عن القدماء، كل ما أدعو إليه يتمثّل في الانتماء إلى الهوية العربية الجامعة، التي تتعالى عن الانتماءات القبائلية والعشائرية والطائفية والمذهبية التي يروجها أعداء الأمة.
وثقافة التغيير تعني الشغل العقلاني والمعرفي المستمر على الهوية العربية، ونقد القيم التي تقوم عليها نقداً موضوعياً وعقلانياً يستجيب لأسئلة المرحلة التاريخية الراهنة، لتكون هذه الهوية أكثر كفاءة وكفاية في مواجهة أعباء الوجود في عالم متغيّر. أما دعاة تغيير الثقافة فيدعون إلى تغيير المزاج العام، ليقبل إحلال هوية مستوردة من وراء البحار أو من وراء النهر، محل الهوية العربية، عن طريق تبني ثقافة الآخرين وقيمهم، بدعوى أن ما نجح في مكان ما لابد أن ينجح في كل مكان.
وثقافة التغيير ثقافة عقلانية، تقرأ تراث الأمة قراءة موضوعية نزيهة، للتخلّص من كل ما انتهت صلاحيته، ولم يعد قادراً على الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع المتحرك والمتجدّد، للتخلص من الترهات والأحقاد المتوارثة والتي لا تستند إلى أي مبرّر عقلي، وإنما استغلها الأقوياء ومحدثو النعمة ومن بيدهم القوة للتحكم بالآخرين، من أجل جني المزيد من الأرباح والثروات، الأمر الذي أدى إلى تهميش القسم الأعظم من أفراد المجتمع وشرائحه، وإلى تدمير الطبقة الوسطى حاملة ثقافة التغيير، وإلى تغييب أصحاب الكفاءات وحرمانهم من المشاركة في صنع القرار في بلدانهم، اللهم إلا بصفة تابعين مستأجرين يرمى إليهم بالفتات بعد أن يتمّ إفسادهم. وهكذا تمّ منح الشرعية لبعض أفراد النخبة، من أهم صفاتهم أنهم لا إنسانيون، ولا أخلاقيون، وفاسدون ومفسدون، وأخطر ما في أمرهم رفعهم لشعارات مضلّلة وزائفة، الأمر الذي أدى إلى تدمير المرجعية المشتركة والضرورية لقيام حراك سياسي واجتماعي غير منبت عن محيطه الثقافي والاجتماعي، وحال دون التواصل والتفاهم بين شرائح المجتمع ومكوناته، وقضى على التصورات المشتركة التي من المفروض أن يتمّ الاحتكام إليها، وحوّل كل شريحة اجتماعية إلى معزل اجتماعي يناوئ المعازل الأخرى ولا يتوقع أي خير يمكن أن يأتي من جهتها.
وللخروج من حالة انسداد الآفاق هذه لابد من المراجعة والنقد النزيه للتخلّص مما انتهت صلاحيته ولم يعد يمتلك الإجابة الناجحة عن أسئلة العصر، لإعادة بناء اللحمة الوطنية والاجتماعية التي تهشّمت في أكثر من مكان من الوطن العربي، بفعل تآمر الخارج وعقوق بعض أفراد الداخل وانشغالهم بمصالحهم الشخصية الضيّقة.