سيد درويش.. الإسكندراني البديع
الشاعر الكبير نزار قباني في قصيدته “موسيقى” يقول: “أمطار أوروبا تعزف سوناتات بيتهوفن/ وأمطار الوطن تعزف جراحات سيد درويش/ وأنا بدون تردد مع هذا الإسكندراني”.
لقد قيل الكثير عن الظاهرة العجيبة التي تُدعى سيد درويش، ولكن الكلام الوارد في قصيدة نزار قد يكون الأجمل، لأنه يقارن فيه بين الاسمين، فمقابل بيتهوفن، الاسم الأكثر شهرة وحضوراً في عالم الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، يضع شاعرنا اسم سيد درويش (1892 – 1923)، هو يعترف لكل منهما بالأصالة في عالمه، إذ تُعبّر أمطار أوروبا عن الأول وتعزفه، بينما تُعبّر أمطار الوطن عن الثاني، نزار ورغم الجو الرومانسي والموسيقى ينحاز بلا تردّد إلى ثقافته المرتبطة بعناصر الطبيعة، والتي ارتأى – موسيقياً – أن الفنان الكبير الذي مرّت منذ بضعة أيام ذكرى وفاته، هو المُجسّد لموسيقى الشرق وثقافته، وفوق ذلك يُفضّله على بيتهوفن، هذه الشهادة الكبيرة من شاعر كبير والتي تُشكّل موضوعاً لقصيدته، ارتأى أن إعطاء الرأي بـسيد درويش لا بد أن يكون شعراً.
بدأت الحكاية عندما وصلت للمسرحي أمين عطا الله أخبار عن عامل ورشة بناء، يؤدي بشكل ساحر، في الاستراحات والوصلات وبين الرمل والأحجار ومعدات البناء، ذهب إليه واستمع، وطلب إليه الانضمام إلى فرقته المسرحية، التي كانت على وشك المغادرة إلى سورية لتقدم عروضها عام 1910، ودّع سيد درويش أصدقاءه في ورشة البناء، ظناً منه أنها سفرة عمل وسوف يعود إلى عمله بعد عودته من الشام، ولكنها كانت في الحقيقة الخطوة الفعلية الأولى التي ستقدم للموسيقى العربية الاسم الذي يضعه نزار قباني مقابل بيتهوفن، وأيضاً يُفضّله عليه.
قبل ذلك كان الموسيقي الأسطورة يعبر جميع الدروب المعرفية التي ستشكل أصالته التي تقوم نقطة ارتكازها على الموروث الديني، فدفع به أهله منذ طفولته إلى مجلس الشيخ حسن حلاوة، ولم يغادره قبل أن يحصّل منه جميع ما يمكنه من تجويد وقراءات ورفع الآذان بمختلف أشكاله ومقاماته التي ترتبط بالتجويد والقراءات نفسها، لاحقاً سيظهر ذلك النفس بأجمل أشكاله.
لننظر إلى كلمات أغنية “الحلوة دي قامت”: “صبح الصباح فتاح يا عليم/ والجيب ما فيش ولا مليم/ بس المزاج رايق وسليم/ يلي معاك المال/ برضو الفقير له رب كريم”.
سيد درويش إذن لم يكن يتعالى ولا يترفع أو يتكبّر على جمهوره، بل كان يأتيه من صميم ثقافته: :إيدي بأيدك يا بو صلاح/ خلي اتكالك ع الفتاح”، لنشر قيم العمل والحضّ على السعي، في قوالب موسيقية رشيقة وسريعة، تبثّ أجواء الفرح والأمل.
مثل كل العظماء لم يكن طريقه مفروشاً بالورود، وبعد صعوبات نجح في أن يُقنع مجتمعه كي يلتحق بمدرسة سامي أفندي التي كانت تُعلم الموسيقى والغناء، لكن الضغوط دفعته إلى تركها من جديد، ليعمل مقرئاً ومنشداً ومؤذناً، بعدها لم يستطع أصحاب المقاهي التي تُقدّم وصلات غنائية أن يتجاهلوا ذلك الصوت، وبعد رجاء وإلحاح يصل أحياناً درجة التوبيخ من أصحاب تلك المقاهي، والذين كانوا بمثابة نُقاد موسيقيين، اضطر أن يخلع العباءة والعمة وأخذ يُقدّم وصلات غنائية لاقت استحسان الجميع، غير أن الضغوط من الأسرة عادت إليه مرة أخرى، وهنا في قرار قريب من الانتقام من الجميع، اختار لنفسه أن يعمل مع ورشة بناء، ليس في مئذنة حيث الآذان يفضح موهبته وتمكّنه أمام جماعة الموسيقى، ولا مُغنياً حيث أسرته المحافظة تعتبر ذلك فضيحة.
هل تستطيع تلك الطاقة الفنية المهولة أن تبقى حبيسة؟ لقد خرجت على شكل “دندنات” بين العمال، فجذبت إليه الأنظار مجدداً، وربما يكون قبوله المشاركة بالفرقة مبدئياً، أنه سيؤدي في مكان بعيد حيث لا يراه أحد يعرفه، إلا أن الحفاوة التي لقيها في دمشق وفي حلب وفي عكا أثناء العودة شجعته أكثر.
النجاح الذي حقّقه في رحلته إلى الشام، دفعه لاحقاً إلى مغادرة الإسكندرية والاستقرار في القاهرة، وفي مسرح –محمد عمر- عام 1916 في الرابع من كانون الثاني، كان اللقاء مع جمهور القاهرة، ثم تعرف على الكاتب المسرحي والموسيقي بديع خيري، الذي قدّمه بدوره إلى المسرحي الكبير نجيب الريحاني، والذي قام باختبار سيد درويش بأن أوكل إليه تلحين فواصل مسرحياته الاستعراضية، وكانت النتيجة مذهلة. وهكذا سينطلق سيد درويش في المسرح الغنائي الملتصق بأنماط القرنين الثامن والتاسع عشر، ليخطو به إلى القرن العشرين صانعاً حداثة فنية موسيقية، ستنتقل من المسرح إلى السينما، وسيكون لها الفضل في رواج السينما المصرية لاحقاً، فمعظم نجوم الغناء المصري الكبار قامت السينما بتقديمهم.
صنع سيد درويش مدرسة في الموسيقى والغناء، صداها لم يتردّد في القاهرة، بل في بيروت، عند الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، حتى أن الجمهور كان يعتقد أن أغنية “الحلوة دي” من تأليفهما، ومن الطبيعي والمنطقي أن يصل صدى هذه المدرسة إلى مدينة هي أقرب إلى الإسكندرية من القاهرة، بل إنهما – أي المدينتان – لهما مزاج ثقافي وفني متشابه، وهذا لم يكن ليفوت الأخوين اللذين التقطا أهم ما يميّز مدرسة سيد درويش الموسيقية، رشاقة اللحن والجمل الموسيقية القصيرة التي تمزج بين أنماط موسيقية عدة، وصنعا بدورهما مدرستهما العظيمة، فسيد الحداثة الموسيقية الشرقية، عندما أبدع ما صنع، حملت إبداعه البحار والجداول والطير، وحطّت في القلوب.
تمّام علي بركات