الأيدي التركية في النزاع الأرمني- الأذري
هيفاء علي
في 27 أيلول 2020، دخل النزاع في ناغورني كاراباخ، بين أرمينيا وأذربيجان، مرحلة الأعمال العدائية. وبينما يصبّ النظام التركي الزيت على النار ويحرّض أذربيجان على حلّ القضية بالقوة العسكرية، تدعو روسيا إلى وقف فوريّ للأعمال القتالية، وحلّ القضية من خلال الوسائل السياسية والدبلوماسية.
وناغورني كاراباخ منطقة يشكّل الأرمن (95٪) من سكانها، وهي جزء من أذربيجان رسمياً، ولكنها تخضع حالياً لسيطرة أرمينيا. وتعود جذور الصراع إلى تاريخ المنطقة نفسها التي أصبحت جزءاً من الممالك والإمارات الأرمنية المتعاقبة، ثم تحت سيطرة الخانات، وأصبحت جزءاً من الإمبراطورية الروسية في بداية القرن التاسع عشر.
فشلت محاولة أذربيجان الأولى للسيطرة على ناغورني كاراباخ في آذار 1918، حيث رفضت المنطقة الاعتراف بولاية الجمهورية الأذربيجانية. وفي حزيران 1918، أعلن المؤتمر الأول لأرمن ناغورني كاراباخ وحدة إدارية سياسية مستقلة، وانتخب المجلس الوطني والحكومة الشعبية في المنطقة.
في عام 1919، أصبحت المنطقة تحت السيطرة البريطانية بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. حاول البريطانيون مساعدة أذربيجان في السيطرة على ناغورني كاراباخ، على الرغم من الرفض المتكرّر من قبل الكونغرس الأرميني لقبولها. وأدى هذا الوضع إلى اندلاع حرب في ربيع عام 1920 بين أذربيجان وأرمينيا. في نهاية المطاف، سيطرت أذربيجان على ناغورني كاراباخ بالقوة.
بعد سيطرة الاتحاد السوفييتي السابق على منطقة القوقاز بأكملها في عام 1921، نقلت موسكو كاراباخ إلى أذربيجان، وبعد ذلك بعامين، أصبحت منطقة ناغورني كاراباخ إقليماً يتمتّع بالحكم الذاتي لجمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفييتية، وتمّ الحفاظ على هذا الوضع الراهن طوال فترة الاتحاد السوفييتي. ولكن في عام 1988، ومع بداية تفكّك الاتحاد السوفييتي، عادت قضية ناغورني كاراباخ إلى الواجهة، حيث تمّ إجراء استفتاء غير رسمي لانفصال الإقليم عن أذربيجان وضمّه إلى أرمينيا.
أثار هذا الاستفتاء سخط السكان الأذريين، وفي شباط 1988 وقع صدام مباشر نتج عنه ضحايا من الجانبين. وفي عام 1989، اشتدّ الصراع بين الأعراق، وأعلنت يريفان وناغورني كاراباخ إعادة ضمّ المنطقة إلى أرمينيا.
في كانون الأول 1991، تمّ إجراء استفتاء، كما هي الحال في أي مكان آخر في الاتحاد السوفييتي، ووافقت غالبية السكان الأرمن في ناغورني كاراباخ على إنشاء دولة مستقلة. لكن ونظراً لأنها لم تكن جمهورية سوفييتية، لم تستطع طلب الاستقلال، ولم يرضِ اقتراح السوفييت بزيادة الحكم الذاتي للمنطقة داخل أذربيجان أياً من الجانبين، ما أدى إلى هجوم عسكري من باكو على ناغورني كاراباخ، التي لم يكن لديها جيش في ذلك الوقت، ولهذا قرّرت أرمينيا دعم المنطقة مما أدى إلى نشوب حرب مع أذربيجان.
في غضون عامين، أودى هذا الصراع بحياة الآلاف ومئات الآلاف من اللاجئين على كلا الجانبين. نجحت أرمينيا في الاستيلاء على الأراضي التابعة لأذربيجان، وبالتالي إنشاء منطقة عازلة حول ناغورني كاراباخ.
في عام 1994، لعبت روسيا دور الوسيط بين الأطراف المتحاربة، ونجحت في تأمين وقف إطلاق النار في مينسك. منذ ذلك الحين، تجمّد نزاع ناغورني كاراباخ إلى حدّ ما، مع بعض التصعيد كما حدث في نيسان 2016. لكن ونظراً لأن المشكلة لم يتمّ حلها سياسياً ودبلوماسياً فإن إغراء حلّها بالقوة يعود بانتظام.
الأيدي التركية في النزاع الراهن
أشار المراقبون إلى أن النظام التركي نقل إرهابيين سوريين إلى كاراباخ للقتال لحساب أذربيجان، ما يؤكد أن العامل الرئيسي المزعزع للاستقرار في هذه المنطقة هو تركيا، التي يشهد اقتصادها كارثة حقيقية مع ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة. وباعتبار أن باكو تمتلك وفرة من أموال النفط والغاز فيمكن أن تكون متاحة للنظام التركي بسهولة، كما أن التدخل التركي في النزاع سيؤدي إلى إنشاء قواعد عسكرية كاملة وإدراج أذربيجان في فلك النفوذ التركي في إطار إحياء العثمانية الجديدة. أضف إلى ذلك زاوية الناتو، المهمّة للغاية، حيث يسعى أردوغان بمساعدة من واشنطن لدفع الناتو إلى الشرق مع إنشاء هذه القناة الخطيرة للغاية بالنسبة لروسيا، إذ يمكن أن تعمل الولايات المتحدة على حثّ أرمينيا للانفصال عن روسيا ودخولها فلك حلف الناتو، بحسب تقرير صادر عن مؤسسة “راند” المعنية بالأبحاث الموضوعية.
وعليه، يبدو أن النظام التركي كان ينتظر اندلاع هذه الحرب بفارغ الصبر، وقد جاءت الفرصة التي ينتظرها لينقضّ على أرمينيا، وهو الذي سرعان ما أعلن أنه سيدعم أذربيجان إذا لزم الأمر، وتوعد أردوغان “بالثأر لأي هجوم على أذربيجان” التي تزوّد أنقرة بغاز رخيص، وهدّد بأنه على أرمينيا “أن تدفع ثمناً باهظاً” لأي هجوم.
وبالتالي تنحاز تركيا في موقفها من النزاع إلى جانب أذربيجان فهي أولاً وقبل كل شيء تقدّم المساعدة التقنية لأذربيجان. ثانياً، من الواضح أن رئيس النظام التركي يدفع بأذربيجان إلى الحرب، عندما يحاول الادّعاء بأن استعادة باكو لناغورني كاراباخ من شأنه أن يرسّخ السلام والاستقرار في المنطقة. وبالنظر إلى تاريخ الصراع، سرعان ما يتضح عكس ادعائه هذا. فإذا نجحت أذربيجان في استعادة السيطرة على ناغورني كاراباخ، فقد ينتهي الأمر بتطهير عرقي دموي بحق الأرمن، كما شهدت المنطقة مرات عدة في الماضي.
تُظهر التدخلات التركية في سورية وليبيا واليمن أن الحرب هي أحد عناصر سياسة أنقرة الخارجية التوسعية، والهدف منها هو إنشاء “إمبراطورية عثمانية جديدة”. ومع هذا التصعيد المسلح، يريد النظام التركي فرض هيمنته هذه المرة على القوقاز بالمراهنة على الترهيب والوعيد. وعليه، فإن الحرب في ناغورني كاراباخ هي استعراض لقوته أمام اليونان وكلّ أوروبا التي تخوض تركيا معها صراعاً بسبب حقول الغاز في شرق البحر المتوسط، إذ تظهر أنقرة مرة أخرى أنها تعتبر الحرب هي الوسيلة الناجعة لتعزيز مصالحها الخاصة. كما أن إعادة روسيا إلى الدراما الأرمنية الأذربيجانية هو تحويل انتباه موسكو إلى القوقاز، بحيث يكون هناك المزيد من حرية الحركة التركية في شرق البحر المتوسط.
حتى اليوم، كانت إمكانية انتشار هذا الصراع وإشراك روسيا، على سبيل المثال، محدودة، لأن أرمينيا لا تطلب دعم الأعضاء الآخرين في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) لحلّ الموقف لأنه ليس عدواناً خارجياً ولكنه صراع داخلي بين الأعراق.
زيادةً على ذلك، من الواضح أن الطريقة الوحيدة لتجنّب تمديد الصراع هي من خلال المفاوضات وتوقيع معاهدة سلام، وهذا هو الاتجاه الذي تدفع به روسيا من خلال دبلوماسيتها. خيار دافعت عنه أيضاً العديد من الدول الغربية مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإستونيا وبلجيكا، حيث طالبت فرنسا الاتحاد الأوربي بفرض عقوبات على تركيا جراء استفزازاتها شرق المتوسط وتدخلها في النزاع الراهن بين أرمينيا وأذربيجان.