الصين مملكة الشرق
علي اليوسف
على مدى عقود من الزمن بقيت الصين بعيدةً عن كافة أنواع الصراعات حول العالم، سواء الباردة أو الساخنة، وكان لديها الرغبة الدائمة بعدم الانضمام إلى هذه السباقات. إلا أنها في السنوات الماضية تمكّنت من التمدّد الاقتصادي بنجاح وبهدوء شبه تام ودون أي صدام مع أحد، اتجه تركيز الصينيين تدريجياً وبلا ضجة إلى التجارة، وابتعدوا عن الطموحات العسكرية.
لقد تمكّن الصينيون بفضل نجاحهم الاقتصادي الهادئ من ترسيخ انطباع لدى العديد من السياسيين والخبراء أنهم القوة الاقتصادية المطلقة في العالم، الأمر الذي دعا الأمريكيين للزعم أن الوجود الصيني خطر على نفوذ بلدهم، باعتبار أن ما يهدف إليه الجانبان يسير في خطين متناقضين، بل يرى الكثير من المتابعين للصراع الصيني- الأمريكي أن أهداف البلدين ليست متناغمة إلى حدّ كبير، لأن أولويات الولايات المتحدة الأمريكية هي تأمين إمدادات النفط والغاز، وحماية الكيان الصهيوني، بينما أولويات الصين هي محاولتها إقناع المستثمرين المحايدين بجدوى التوجهات الصينية الاقتصادية وأهمية الاستثمارات الصينية لدى دول هؤلاء المستثمرين المحايدين، وهي بذلك تسعى لتعاظم تطلعاتها وطموحها لدور عالمي يتناسب مع تقدمها الاقتصادي المتزايد.
لكن صعود اليمين الأمريكي بعدوانيته تجاه الصين جعل من الصعب استمرار وصمود نظرية تناغم المصالح التي باتت تعتبر من أوهام الليبراليين، فاليمين الأمريكي يؤمن إيماناً كبيراً بأن الصين في سعيها الحثيث لإقامة نظام عالمي جديد أكثر عدالة، ستضع عينها على الشرق الأوسط وثرواته الهائلة، وهو ما يشكّل تهديداً مباشراً لأمنها القومي ومصالحها الاقتصادية الضخمة. من هنا نجد العديد من مراكز الأبحاث والدراسات في الولايات المتحدة تؤكد أن الصراع الصيني مع الولايات المتحدة المرتقب في المنطقة ليس بعيداً، حيث يعتبر مركز “هادسون” للأبحاث السياسية، وهو من أهم مراكز الدراسات والأبحاث التابع لليمين الأمريكي، أن الصين ستصبح حتماً مملكة الشرق الأوسط الجديدة دون منازع، لأن الصين لم تعد تكتفي بنجاحها وقدراتها الاقتصادية الهائلة، بل انتقلت إلى مرحلة جديدة من التعاون على المستوى العسكري، وخاصة بعد أن أصبحت الشريك التجاري الأكبر لعدد كبير من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة العربية وشمال إفريقيا، وحصلت هناك على استثمارات ضخمة وصلت إلى نحو مائة وثلاثة وعشرين مليار دولار منذ العام 2013.
لقد وصلت العديد من نتائج الدراسات والأبحاث الأمريكية إلى خلاصة مهمّة هي أن المكاسب الكبيرة التي حصلت وتحصل عليها الصين هي نتيجة أخطاء القيادة الأمريكية التي تسبّبت سياساتها بعدم الوضوح والرؤية، إضافة إلى زعزعة ثقة أصدقائها وحلفائها نتيجة عدم الوفاء بالتزاماتها تجاههم.
في عام 2016 زار الرئيس شي جين بنغ الشرق الأوسط، ونشرت وزارة الخارجية الصينية ورقة بيضاء حول السياسة من العالم العربي، وهي الأولى من نوعها. وجاء فيها: “سنعمّق التعاون والتبادل العسكري الصيني- العربي.. وسنعمّق التعاون في مجال التسلّح والمعدات ومجالات التخصّص التكنولوجي والمشاركة في مناورات عسكرية”.
وفي عام 2017 افتتحت الصين أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي وهي الأولى من نوعها، فيما ينظر إليه أنه تخلٍ تكتيكي عن سياسة عدم التدخل التقليدية. وموقع القاعدة مهمّ، لأن جيبوتي تقع على مدخل باب المندب الذي يربط قناة السويس بخليج عدن.
لذلك فإن فرضية التكامل بين المصالح الأمريكية والصينية في الشرق الأوسط هي بقايا اعتقاد بالٍ أطلق عليه “التقارب المتناغم”، فمن عهد ريتشارد نيكسون حتى باراك أوباما، اعتقد القادة الأمريكيون أن العولمة قد تحوّل الصين وتضطرها بالضرورة للقبول ببعض مبادئ الرأسمالية.
هذه الفكرة أعمت أنظار القادة الأمريكيين عن العوامل الأخرى الثقافية والسياسية والسكانية، فمن الناحية الثقافية تعتبر الصين بلداً كبيراً، وحضارة كبيرة مركزية للحياة الإنسانية. ومن الناحية السياسية، أثبت الحزب الشيوعي الصيني قدرة على التكيّف وتلبية التطوّرات المتسارعة، ولذلك نجحت الصين في بناء علاقات أكثر مصداقية.