مستقبل التيارات القومية
علي اليوسف
شكّلت المسألة القومية نواة قيام الدول، وكانت بمثابة قطيعة تاريخية مع التحالف الإقطاعي الكنسي، مبشّرة بعهد جديد، ورغم تعدد التيارات والمدارس، إلا أن معظم القوميين العرب كانوا يساريين في الأصل، لذلك فإن انهيار المعسكر الاشتراكي، الداعم الأول لأنشطتهم وتحركاتهم، جعلهم يعيشون أزمة فكر وانتماء.
اعترف بهذه الأزمة أبرز ممثّلي التيار القومي إبان الحرب الباردة خلال السبعينيات، وخصّها ياسين الحافظ، أحد أهم مفكريهم، بكتاب صدر عام 1978 تحت عنوان: “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة”، شرح فيه أسباب هزائم الأمة العربية منذ وعد بلفور عام 1917، متجاوزاً لأول مرة نقد السياسة إلى نقد المجتمع.
أسئلة عميقة فشل فيها التيار القومي فشلاً ذريعاً، ولم يقدم لها إجابات، مع العلم أنها من بنات الأفكار المؤسسة لمشروعه، من قبيل: ما العروبة؟ ما العربي؟ هل نحن بصدد أمة مشكّلة تاريخياً كما وصف كثيرون؟ أم أننا إزاء أمة قيد التشكّل، كما عبّر عن ذلك زريق قسطنطين؟ مع العلم أن المؤرخ السوري سبق له أن أصدر كتاباً موسوماً بـ “الكتاب الأحمر” مع مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين اعتبر ميثاقاً للقومية العربية.
يبدو أن القوميين تاهوا بين الذوبان في الاتحاد السوفييتي، وبين القطيعة مع المعسكر الليبرالي الامبريالي، وفي أدبياتهم إشكالات حقيقية ومؤرقة لم يقدم لها القوميون حلولاً دقيقة، فصار من كان يدخل في المجال الجغرافي للأمة بالكاد يقدم نفسه قبل أن يحدثك عن التعريب، هذا إن لم يكن له موقف من العرب وتاريخهم، لأنها- أي القومية- سقطت في الشوفينية، وتناست أن سياسة الرجل المريض العرقية هي سبب ظهورها، مكرّسة الواقع التاريخي نفسه الذي أدى إلى تداعيات خطيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نعيشها حالياً دماراً وقتلاً.
إن المشترك المعرفي يوفر مجالاً واسعاً لحدوث تقاطب بين القوميات، إما على شكل تقاطب سالب يقود إلى الصراع حينما تتنافر المصالح، أو على شكل تقاطب موجب يؤدي إلى التحالف حينما تتوحد المصالح. ومن هذا المنظور المعرفي يجب التأكيد على أن القوميات، عبر العالم وعبر التاريخ، تحضر باعتبارها أنساقاً أيديولوجية مغلقة، توظف اللغة والدين وأحداث التاريخ من أجل صياغة سردية تاريخية قادرة على جمع الأتباع وتجنيدهم من أجل تحقيق أهداف سياسية خاصة، واستراتيجية عامة.
إن المميز الأساسي للأمة عن الجماعات الإنسانية السابقة عليها هو عنصر الأرض الخاصة المشتركة، الخاصة بالجماعة البشرية المعينة دون غيرها من الجماعات الإنسانية الأخرى، ومن تكوّن الأمة تكويناً واحداً من الناس (الشعب) والأرض (الوطن) معاً، فنحن عندما نقول– مثلاً– إننا أمة عربية، ثم نتحدث عن الوطن العربي، لا يكون حديثنا عن شيئين منفصلين، بل عن الكل (الأمة) الذي يتضمن الجزء (الوطن)، فالشعب العربي (الناس)، والوطن العربي (الأرض) يكوّنان معاً الأمة العربية التي ما تحولت من شعوب لا تختص بالأرض التي عليها إلى أمة، أو من أرض لا تخص شعباً بعينه إلى أمة، إلا عندما التحم الشعب العربي بالوطن العربي واختص به ليكونا وجوداً واحداً هو الأمة العربية. والآن السؤال: ما هو مجتمعنا الذي ننتمي إليه؟ ما هي حقيقته الموضوعية كتكوين تاريخي؟ هل نحن مازلنا مجموعات من القبائل، أم أننا مجموعة من الأمم، أم أننا ننتمي إلى أمة عربية واحدة؟.
الإجابة هنا تكاد تكون جاهزة، نحن أمة عربية واحدة، لقد اكتشف كثيرون حقيقة الوجود القومي العربي من شعورهم بالانتماء إلى هذه الأمة العربية التي تتجاوز مجتمعاتهم السياسية بشراً وأرضاً، أي من خلال ما يسمونه “الحالة النفسية المشتركة” التي تعبّر بذاتها عن اكتمال التكوين الاجتماعي الذي تعكسه، اكتشفه آخرون عن طريق البحث العلمي في تاريخ الأمة العربية، واكتشفه غيرهم عن طريق الممارسة، حيث تعاملهم شعوب الأمم الأخرى على أساس أنهم “عرب” ينتمون إلى أمة عربية، بل إن كثيرين اكتشفوا انتماءهم القومي إلى الأمة العربية من خلال صدمة النكبة سنة 1948، وصدمة النكسة سنة 1967، لذلك فإن التحديات التي يمر بها الوطن العربي اليوم تؤكد الحاجة إلى تعزيز الحوار بين مختلف مكوّناته القومية والدينية والمذهبية من أجل مواجهة ظواهر التعصب الأعمى وتداعياتها الإنسانية المريرة، وقد أغنى وجود هذا التعدد القومي، وذلك التنوّع الديني واللغوي، الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكانت الهوية العربية منفتحة على التعدد، ويمكن القول: إن تاريخنا العربي يشهد بأن جوهر الهوية العربية لا يتناقض مع التنوّع الديني والإثني والثقافي الذي احتضنته أمتنا منذ قرون.
وإذ تتسم المجتمعـات الإنسانية بالتعددية الثقافية التي تعكس الهويات الوطنية المتنوعة، فإن الحضارة العربية ضمّت تراثاً ثقافياً عريقاً استند إلى الحوار بين أتباع الثقافات والديانات والإثنيات، وإلى قيم العيش المشترك، واليوم هناك شعور لدى مختلف المجتمعات الإنسانية بوجود أخطار مشتركة تتجاوز حدود الثقافات والعقائد الدينية والقوميات مثل تحديات الفقر والعنف والمياه والطاقة والبيئة.
لقد أدت المتغيّرات السياسية والاجتماعية إلى تحوّل العرب في القرن الماضي من كونهم قومية كبرى إلى دول قطرية متنوّعة المكونّات، ورافق ذلك ظهور تحدي الهويات الإثنية داخل حدود تلك الدول، وأصبحت تسعى جاهدة لبناء هوية عربية جامعة تحتضن التنوّع الديني والثقافي والقومي بشكل عادل.
وفي وجود النسيج المجتمعي المتماسك تخبو التوترات السياسية والنزاعات المسلحة، وتعلو نبرة الحوار بين أتباع الديانات والثقافات بما يحقق الصالح العام.
إن قراءة المشهد الراهن تجعلنا نتساءل: هل انتقلنا من الحديث عمّا يسمّى بصراع الحضارات إلى صراع القوميات؟ وهل يمكن لما تتعرّض له القومية العربية في المنطقة من تحديات مصيرية أن يرفع وتيرة ذلك الصراع؟.. يمكن للوعي العام أن يقرّب بين شعوب المنطقة، خاصة عند ارتكازه على منظومة قانونية تعلي من كرامة الإنسان، وتحترم حقوقه وواجباته.