“إعدام”: هل أعدم قدسية النص لإحياء الكوميديا؟
بين المونودراما والمسرح الفقير، هناك الممثل سيد الخشبة والمسؤول الأول والأخير عن نجاح العرض وشدّ المتفرج من المشهد الافتتاحي حتى الختام. وهذا ما يعوّل عليه المخرج المسرحي زيناتي قدسية صاحب التجربة الطويلة التي تنوّعت بين المونودراما والمسرح التهكمي الناقد الذي يستلهم الماضي لتوجيه رسائل آنية متعدّدة الأبعاد، كما هو عرضه الحالي “إعدام” عن نص الروسي غريغوري غورين، الموسوم “انسوا هيروسترات” الذي زار مدينة حمص في عرضين متتاليين على مسرح دار الثقافة.
يعتبر قدسية من المواظبين الدائمين على الحضور في حمص باستمرار، فقد قدّم خلال العامين الماضيين مونودراما “أبو شنار”، و”حفلة على الخازوق” عن نص الكاتب المصري محفوظ عبد الرحمن، مع الفريق التمثيلي ذاته، ويمكن اعتبار عرضه الحالي استكمالاً لما بدأه في “حفلة على الخازوق”، من نقد لصراع السلطة والمال والدين وأثره على تطبيق القوانين، رغم إهدائه العرض لعالم الآثار السوري الشهيد خالد الأسعد، الذي ارتبط اسمه بتدمر ومعبد بل تحديداً، ومحاولة منع “داعش” من تخريبه ليدفع حياته ثمناً لموقف مشرف خلّده في التاريخ.
لكن نصّ غورين الذي ينتمي لنوع التراجيكوميديا، يأخذ منحى آخر، حيث ينتظر الشاب هيروسترات حكم الإعدام بسبب إحراقه للمعبد، فهو شخصية إيجابية إذا أمعنا في أبعاد وأهداف الرسائل التي تصرّح بها مرحلة محاكمته، ولاسيما رسالة الصراع الأزلي بين السلطة والمال والدين، الذي يؤدي بالنتيجة الحتمية إلى إعدام القانون، وهذا ما أراد النص الإشارة إليه في المشهد الختامي، عندما يضطر القاضي لقتل السجين قبل محاكمته، فيقول له رجل المسرح: لقد نفّذ حكم الإعدام، فيجيبه القاضي بل قتلت.
مضمون المسرحية من التاريخ اليوناني القديم يحمّلها الكاتب مقولات سياسية واجتماعية يمكن اعتبارها متجدّدة زمنياً وديموغرافياً أيضاً، فقضية حرق معبد المدينة الكبير لا تتوقف عند مسألة فضح مآرب رجال الدين وعجزهم عن مواجهة التحديات العقائدية أحياناً، بل يتعدّى ذلك إلى فضح الفساد السلطوي والأخلاقي القائم على مرّ الأزمنة، رغم الالتزام الحرفي بالنص، وعدم توطينه سوى بعض المفردات لأغراض زيادة الفواصل الكوميدية المطلوبة جماهيرياً، والتي أُسندت للفنانين جمال العلي بدور حارس السجن، وسامر الجندي بدور المرابي كريسيب، لأن النص رحب التأويل دون أية إضافات أو تدخلات، ولا يحتاج لكثير تبسيط لإيصال أهداف مقولاته إلى المتلقي، وهذا يحيلنا إلى عرض قدسية السابق “حفلة على الخازوق” الذي ارتكز على المقولات النقدية ذاتها، حتى أنه يمكن ملاحظة التكرار في الرؤية الإخراجية لدرجة الاستنساخ “الفوتوكوبي” بعد نجاحه في الاستحواذ على رضا جماهيري من جراء توظيف الإيحاءات الجسدية والألفاظ النابية، والحركات الهزلية التي استقبلت بتفاعل جماهيري كبير.
النص كما أشرت يصنّف كنوع من التراجيكوميديا، لكن في عرض “إعدام” استأثرت فيه الكوميديا الأقرب إلى الهزل والتهريج، الذي فرغه إلى حدّ ما من ميزة التهكم الهادئ واللاذع، وإن أبقى على سمات الاتزان والوقار في دور القاضي الذي أسر الفنان محمود خليلي بأداء خطابي وتلقيني كبّل مقدراته المسرحية الكبيرة وخبرات السنوات الطوال. هذا الانطباع يوحي به فقر الخشبة بالعناصر المسرحية الأخرى، وبما تُسمّى سينوغرافيا، فالخشبة في عرض إعدام خالية تماماً من قطع الديكور، إلا من شبك صغير وكرسي، الأول يشير إلى السجن والثاني إلى قصر الأمير، وحتى الموسيقا والمؤثرات المساعدة في تطوير الحالة الانفعالية، كان هناك تهميش نسبي لها، فقد عوّل المخرج على الممثل بشكل كليّ دون أن يؤمّن له الأجواء المساعدة على شحن قدراته بالانفعالات الموائمة لكل شخصية، رغم الاتكاء على ممثلين مخضرمين في الأداء المسرحي والمواجهة الجماهيرية أمثال جمال العلي، ومحمود خليلي، وقصي قدسية، وزهير عبد الكريم، وصفاء رقماني وخوشناف ظاظا.. وغيرهم، لكن الممثل مهما تعمّقت تجربته يبقى في حالة اختبار دائمة عند كل وقوف جديد على الخشبة وفي مواجهة جمهور كبير، كما هو جمهور حمص الذي غصّ به مدرج مسرح دار الثقافة الكبير.
آصف إبراهيم