النزاع الفرنسي – الأمريكي في إفريقيا
ريا خوري
اتسمت العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية على مر عقود طويلة من الزمن بالتقارب في بعض الأحيان، وبالتعارض والتباعد في أحيان أخرى . وكما قال الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك عام 1995: “العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية كانت وستبقى دائماً متعارضة وممتازة”. هذه المقولة لا تزال سارية بعد مضي أكثر من خمسة عشر عاماً، فالعلاقات الفرنسية الأمريكية شهدت وتشهد توتراً حاداً منذ الاحتفال بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى، حين صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تصريحاً شديد اللهجة ضد فرنسا رداً على إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رغبته الشديدة بإنشاء جيش أوروبي من أجل الخروج من سيطرة الولايات المتحدة على حلف شمال الأطلسي ( الناتو )، ومن أجل خفض الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع عن فرنسا.
بعدها بدأت التصريحات الأمريكية تتطوّر وتتصاعد حتى وصلت إلى وصف فرنسا بأنها دولة تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وأن أمريكا هي صاحبة الفضل على دولة فرنسا كونها مستقلة. وبعد وصلة طويلة من التطاولات على دولة فرنسا خرج ماكرون ليرد رسمياً مؤكداً أن العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل وأن هذه العلاقة هي تعامل بين بلدين حليفين. ورغم تصريحات ماكرون التي تدعو للتهدئة، انتقد ترامب فرنسا في خمس تغريدات عبر تويتر بأن فرنسا هزمت على يد الألمان في الحربين العالميين الأولى والثانية.
لقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أن تجعل من نفسها الوريث الأقوى والأهم للنفوذ الاستعماري داخل قارة إفريقيا وذلك بإتباع السياسات الاستيعابية، وهو ما نجح إلى حد كبير في الدول الإفريقية الأنكلوفونية. في المقابل، عادت فرنسا من جديد للعمل على استعادة نفوذها ومكانتها الدولية من خلال توسيع دائرة علاقاتها السياسية والتجارية والاقتصادية مع الدول الإفريقية الفرانكفونية. ولهذه الغاية ورغم قيام فرنسا بإغلاق قاعدتين عسكريتين في إفريقيا الوسطى، إلا أن ذلك لم يمنعها من القيام بدور في تأجيج الصراعات واختلاق الأزمات التي ضربت معظم الدول الإفريقية بخاصة في منطقة الساحل الإفريقي، فقد عملت السياسة الفرنسية على زعزعة تواجد الولايات المتحدة الأمريكية من خلال عدم استقرار منطقة الساحل الإفريقي، المنطقة الممتدة من جنوب الصحراء الكبرى من السنغال إلى إريتريا، وهي منطقة قاحلة جداً، هذه المنطقة تعاني من أزمة أمنية كبيرة. ومنذ عام 2016، تضاعفت الهجمات الإرهابية والمجرمين والمرتزقة خمسة أضعاف في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. وفي شهر شباط الماضي ذكرت وكالة هيئة الأمم المتحدة للاجئين أن نحو أربعة آلاف شخص في بوركينا فاسو يتعرضون للعنف والقتل والدمار والنزوح كل يوم بسبب العنف السياسي. هذا المسار من القهر والتعذيب والعنف استمر في تصاعده على الرغم من جائحة كوفيد 19 ( كورونا ) وانقلاب 18 آب الذي أطاح بالرئيس إبراهيم بو بكر كيتا، ما يهدد بمزيد من القلق والاضطراب وزعزعة الاستقرار في منطقة هشة بالفعل.
ومع ازدياد التدهور في الوضع الأمني في منطقة الساحل، تتكثف الاجتماعات لقراءة أسباب العنف والقتل بانتظام، لكن لا أحد يتخذ أي إجراء عملي لمواجهته. أما وزارة الخارجية الأمريكية فإنها تؤكد بشكل روتيني على دور الجماعات الإرهابية والمرتزقة والقتلة العابرة للحدود مثل “القاعدة” و”داعش” في إشعال الأزمة الأمنية في الساحل، بينما ترى مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية، ووكالات التنمية، ومراكز الفكر أن عدم الاستقرار سببه مؤسسات الدولة الضعيفة والهشة والاستبداد وتغيير المناخ كعامل مسبب للاضطرابات وعدم الاستقرار، ومع ذلك يتردد صناع السياسة ومتخذو القرارات حول ما إذا كان ينبغي تخصيص موارد مالية ولوجستية ومعلوماتية لجهود مكافحة الإرهاب أو لمبادرات التنمية والتطوير.
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية قد انتهجت سياسة خاصة في تبني أسلوب يحقق أكبر قدر من المصالح الهامة بأقل تكلفة بشرية ومادية من خلال التركيز على بعض الأقاليم حول العالم، والسعي لتكثيف العلاقات ببعض الدول والقوى السياسية والعسكرية داخل تلك الأقاليم، والاهتمام بشكل مركز على قضايا مثل التجارة والإرهاب، وهو الذي يضمن للولايات المتحدة الأمريكية النصيب الأكبر من الثروات الإفريقية وبخاصة البترول .
ومن الواضح تماماً أن الأهمية الإستراتيجية، وطبيعة الأوضاع الأمنية والسياسية لبعض الأقاليم في إفريقيا، في ظل ما تحمله السمات الاجتماعية من توظيف لصالح الواقع الأمني والمصالح الغربية، والاكتشافات لثروات باطن الأرض من حديد ونحاس وبوتاسيوم وبترول وغاز ومنغنيز وغير ذلك، والمصالح الاقتصادية جميعها، شجعت عدد كبير من القوى الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية على الدخول بقوة إلى ساحة التنافس في عدد من الدول، بخاصة مع انتشار الحركات المتطرفة، وانتشار ظاهرة الإرهاب في البلدان التي تعتبر ساحة انتقال وعبور الهجرة الشرعية التي تهدد الدول الأوروبية.