وعــد بلفــور.. تجسيد المصالح الاستعمارية في الشرق
د. معن منيف سليمان
راجت فكرة توطين اليهود في فلسطين في الأوساط الاستعمارية الأوروبية، وكان الصراع الامبريالي الاستعماري محتدماً حول اقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، وقد كان الصراع على أشدّه بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، ورأت بريطانيا أن فكرة توطين الجماعات اليهودية في فلسطين ستمكّنها من الدفاع عن مصالحها الاستعمارية في الشرق.
سعت الأوساط الحاكمة البريطانية من أجل توطين اليهود في فلسطين منذ الأربعينيات من القرن التاسع عشر عندما احتلّ محمد علي باشا منطقة بلاد الشام، ولذلك حاول اللورد بالمرستون، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، إخراج محمد علي باشا من سورية، في إطار مساعيه الرامية إلى الحفاظ على الدولة العثمانية، ذلك أن روسيا القيصرية وفرنسا كانتا تتلهفان لسقوط الدولة العثمانية أملاً في الحصول على مغانم من تركة الإمبراطورية المنهارة، ما دفع بالمرستون إلى البحث عمّن يحمي المصالح البريطانية في الشرق العربي، فوجد ضالته في الجماعات اليهودية، وذلك بتأسيس كيان لهم في فلسطين يُقتطع من جسم الإمبراطورية العثمانية ويُعطى لهذه الجماعات.
وقد لفت أحد الساسة البريطانيين وقتذاك إلى أهمية فلسطين بالنسبة للمصالح البريطانية في الشرق عندما قال: “لأسباب جليّة يجب أن يكون واضحاً لكل عقل انكليزي أنه لتدعيم سيادة انكلترا في الشرق يجب إدخال سورية ومصر إلى هذا الحدّ أو ذاك ضمن نطاق سيطرتها أو نفوذها.. لقد أعلن نابليون أن عكا هي مفتاح الشرق، وقد قدّرتْ عبقريته العسكرية، بصورة صائبة تماماً، أهمية تلك الأراضي التي حاول عبثاً دخولها كقاعدة للعمل ضد إمبراطوريتنا الهندية، بناء عليه فإنني أدعو أبناء وطني إلى تبني هذه العقيدة السياسية، وإلى تعليقها على علم البلاد”.
وفي هذا السياق، قدّم اللورد شافتسبري السياسي البريطاني مشروعه، وهو استيطان الجماعات اليهودية في فلسطين تحت الحماية الأوروبية، وقد اهتمّ اللورد بالمرستون بمشروع شافتسبري وعيّنه قنصلاً لبريطانيا في القدس عام 1834، وذلك لحماية المصالح البريطانية في الشرق أولاً، والاهتمام بتشجيع اليهود للهجرة إلى فلسطين ثانياً.
ومنذ مطلع القرن العشرين جرت تطورات وفقاً للخطط الاستعمارية المتنافسة المتصارعة، حيث دخلت تركيا عام 1914، الحرب إلى جانب ألمانيا، في الوقت نفسه أخذت بريطانيا تخطّط للاستيلاء على فلسطين وتحويلها إلى وطن قومي للجماعات اليهودية بعد القضاء على السلطنة العثمانية، فدخلت في مفاوضات سرية مع فرنسا بعد الحرب، وقد عرفت هذه المفاوضات باسم مندوبيها: المندوب الانكليزي مارك سايكس والمندوب الفرنسي جورج بيكو، حيث انتهت بتوقيع اتفاقية “سايكس- بيكو” السرية عام 1916، وبموجب هذه الاتفاقية حصلت بريطانيا على حصة امتدّت من طرف سورية الجنوبية “فلسطين” حتى العراق، وتشمل بغداد والبصرة وجميع البلدان الواقعة على جانبي الخليج العربي.
ومن جانبهم سعى قادة الحركة الصهيونية من أجل أن تتبنى بريطانيا الهدف الصهيوني فيما يسمّونه “الوطن القومي”، نظراً لتوافق هذا الهدف مع استراتيجيتها في حماية قناة السويس والطريق البري إلى الهند، وحاجتها إلى قوة تعمل على حماية تلك المنطقة، إذ قام زعماء الحركة الصهيونية وفي مقدمتهم حاييم وايزمان، وناحوم سوكولوف بدورهم في دمج مصالح الحركة الصهيونية بمصالح بريطانيا، فكثّفوا الاتصالات مع كبار مسؤولي الحكومة البريطانية مثل لويد جورج، وهربرت صموئيل، فكان مشروع أسرة روتشيلد لتأسيس جامعة يهودية في فلسطين، كما استغل الصهاينة ظروف الحرب لتحقيق أهدافهم التي تركّزت حول انتصار الحلفاء، وإقامة الانتداب البريطاني في فلسطين، على أمل انتهاء هذا الانتداب لتسليم البلد للجماعات اليهودية التي ستستمر في خدمة المصالح الاستعمارية البريطانية، وزيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
ونتيجة الاتصالات الصهيونية- البريطانية أصبحت الصهيونية حليفاً استراتيجياً لبريطانيا، ففتحت أمامهم مختلف التسهيلات بما في ذلك حق استعمال “الشيفرة” الخاصة بوزارة الخارجية، وسرعان ما قدّم “وايزمن” مذكرة رسمية إلى وزارة الخارجية البريطانية طالبت بالاعتراف بما سمّاه “يهود العبرية” كوحدة قومية، وجعل ما يسمّى اللغة العبرية لغة قومية، ومنح اليهود الاستقلال الذاتي في كل ما يتعلق بالشؤون التعليمية والدينية والاجتماعية والحكم الذاتي والضرائب المحلية. وبناءً على ذلك أصدرت بريطانيا وعد بلفور في الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1917، وقد جاء الوعد على شكل رسالة موجّهة من اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد روتشيلد تضمنت الآتي: “إن حكومة جلالته تنظر بعين الارتياح إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل أطيب مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، وليكن معلوماً أنه لن يعمل شيئاً من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتّع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق التي يتمتّع بها اليهود في أي بلد آخر والمركز السياسي الذي حصلوا عليه”.
ولا شك أن هذا الوعد بكل ما يحتويه باطل ولا يستند إلى المنطق والقانون كونه صدر عن دولة لا صلة لها بالموضوع الذي يتناوله التصريح، ذلك أن بريطانيا لم تكن قد احتلت فلسطين وليس لها أية مسؤولية على الجماعات اليهودية، وبالتالي هو وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق، ومن جهة أخرى صدر عن دولة إلى هيئة غير رسمية هي الوكالة اليهودية التي ليس لها صفة تمثيلية في فلسطين وليس لها أية علاقة بها.
ويتنكر التصريح لتعهدات بريطانيا للعرب بالاستقلال، وحق تقرير المصير، حسب الرسائل المتبادلة بين الشريف حسين ومكماهون عام 1915، كما يتناقض مع نفسه كونه ينصّ على إقامة وطن قومي للجماعات اليهودية في فلسطين، وفي الوقت نفسه المحافظة على حقوق الطوائف غير اليهودية، تلك المعادلة غير المنطقية، حيث أثبتت الأحداث أن الكيان الصهيوني منذ قيامه حتى هذا الوقت يواصل انتهاكاته لحقوق الشعب الفلسطيني المدنية والدينية والسياسية.
ويحمل التصريح تناقضات أخرى في طياته، مثل عدم مراعاته للأكثرية الساحقة من عرب فلسطين، في حين يُظهر حرصه على الأقلية اليهودية وحقوقها داخل فلسطين وفي البلدان الأخرى، وإن هذا التصريح يؤكد أن سلوك القوى الكبرى لا ينبثق من اعتبارات الحق والإنصاف، ولا من قوتها ودقة نصوصها، أو شرعية منطلقاتها بقدر ما تستقيها من مضمون الأمر الواقع وحكم القوي على الضعيف.
وهكذا أصبح هذا التصريح فيما بعد أساساً لسياسة بريطانيا في فلسطين والوطن العربي، وفرض هذا الوعد على عصبة الأمم، التي عدّته جزءاً من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد أعطاه الصهاينة فيما بعد التفسير الذي يتناسب مع مصالحهم، وجعلوا منه أساساً لمطالبهم، وأشاروا إليه في إعلان قيام الكيان الصهيوني الغاصب عام 1948.