“ليون” من روائع دراما السيرة الذاتية
ليست أفلام السيرة الذاتيّة من الأفلام التي يحبّذها الجمهور عموماً، لكونها معروفة النهاية سلفاً، سواء كانت عن شخصيات تاريخية، أو من القصص الواقعية التي تمّ نقلها إلى أوراق الكتب، ومنها إلى السينما، وبالتالي فإن الحرفة كلّها في صناعة هذه الأفلام ستكون لنظرة المخرج وتفكيره في آلية السرد البصري للقصة، ومدى الانسجام الذي يتحقّق في المشاهد من العناصر المكوّنة لها، الأداء، الألوان، الموسيقا، الإضاءة، ملاءمة الصورة للحدث من جهة الحوار وطبيعة الشخصيات وتنوّع طبائعها، الحركة في المشهد وبناء العلاقات الديناميكية بين الحوار والحركة، ولهذا هناك العديد من النقاد الذين يذهبون لجعل توصيف تلك الأفلام بأن تكون وثائقية، لا درامية، إلا أن أحد أهم الميزات التي تُعلي من شأن فيلم السيرة الذاتية، هو تحقيقه لشرط الواقعية في السينما، ليس بوصفها واقعاً يجري الآن بعفوية وتنقله العدسة السينمائية والتي هي هنا عين المشاهد، كما فعلت “الواقعية الإيطالية” مثلاً، بل بوصفها حياة كاملة فيها كلّ مكونات العمل الدرامي السينمائي الناجح، قصة جيدة، بداية محكمة السبك البصري والحركي، ذروات كبرى وصغرى محبوكة بعناية ومهارة، سواء على الورق أو في ترجمتها البصرية، نهاية واضحة، أيضاً الشخصيات وعوالمها والتطورات التي تحدث لها عقب كل حدث تمرّ به.
واحد من أنجح الأفلام المعتمدة على السيرة الذاتية هو فيلم دراما السيرة الذاتية “ليون” المأخوذ عن كتاب ” “ALong Way Home” للكاتب سارو بريرلي، والفيلم من إخراج غارث ديفيس، أما كتابة السيناريو فتصدّى لها لوك ديفيس، وقد تمّ ترشيح الفيلم لنحو ١٠٣ جوائز، ونال ٥٩ جائزة، منها جائزة “أكتا” الدولية لأفضل ممثل مساعد وجائزة “غولد غلوب” لأفضل فيلم درامي، وقد تمّ تصوير الفيلم في كلكتا وملبورن وهوبارت.
يحكي الفيلم قصة حياة “سارو”، طفل صغير يسافر مع أخيه من مدينة كلكتا الهندية للبحث عن لقمة العيش في حجرات القطارات، وما يحدث أن الفتى الصغير الذي ألح على أخيه كثيراً بأن يأخذه معه في عمله الليلي، لا يستطيع مقاومة النعاس، خاصةً وأنه يساعد والدته طوال اليوم في نقل الحجارة، فينام في القطار، وبعد عدة محاولات فاشلة من الأخ الأكبر لإيقاظ أخيه الصغير، لم يفلح في ذلك، فيتركه على أحد المقاعد الموجودة في المحطة ويطلب منه ألا يبارح مكانه حتى يعود إليه بعد أن يعده بأن يحضر له العصير الذي يحبه، لكن هذا لن يحدث، وذلك اللقاء سيكون اللقاء الأخير بينهما إلى الأبد.
تبدأ الأحداث المتلاحقة بما فيها من ذرى متعدّدة بالذهاب لسرد الحكاية بمشاهد منسجمة العناصر حسب الحدث، فاللون الرمادي الذي يوحي بالبرودة والحيرة، هو اللون الذي سيسود مشاهد الضياع والفراق وما مرّ به الطفل التائه بعد ضياعه من أحداث قاسية، فبعد أن أدرك أنه تاه، يحاول الطفل الصغير بتفكيره البسيط أن يصل بلدته مرة أخرى عبر عربات القطار المتعدّدة، لكن تقوده كل العربات إلى النقطة نفسها التي بدأ منها البحث، وفي أثناء ذلك يتعرّض الطفل للكثير من المواقف المؤلمة عندما يتنقل بين العربات المختلفة فلا يجد مكاناً ينام فيه، وعندما ينزل من القطار يتعرّض أيضاً للكثير من المواقف الصعبة على طفل، ولاسيما في تلك السن الصغيرة، حيث يتنقل بين الشوارع حتى يعثر عليه أفراد من الشرطة المحلية فيبعثون به إلى أحد مراكز الأيتام، وبعد بقائه هناك فترة من الزمن تتبناه إحدى العائلات الأسترالية فيسافر الطفل إلى أستراليا مع عائلته الجديدة وينشغل بحياته الجديدة وينسى حياته القديمة تماماً، وتدور السنوات ليبحث الطفل الصغير عن وطنه الأم مرة أخرى، فيحاول العثور على بلدته في الهند من خلال شبكة الإنترنت، مستخدماً خدمة خرائط جوجل، وعندما يعثر على عائلته الأصلية تودّ عائلته الأسترالية لو بقي معها، لكن بميوله الفطرية يُفضّل عائلته الأولى ليعود مرة أخرى إلى الهند ويلتقي بوالدته، وهنا ستغلب الألوان المشرقة منذ بداية عمله على رحلة العودة للديار الإعجازية، والتي تحقّقها التكنولوجيا الرقمية، إلا أن الحزن سيغلب على الشاب بعد أن عرف أن أخاه الحبيب قد مات، ولم يبقَ من تلك الأيام القليلة التي جمعتهما رغم كل بؤسها، إلا ذكرى الفرح والعصير الذي يعده به في كل مرة يذهب فيها إلى العمل.
المخرج الذي نجح في صياغة هذه التوليفة من الأحداث الدرامية المتصاعدة، صبّ جلّ اهتمامه على الأداء، الذي يمكن القول إنه البطل الحقيقي للفيلم، فالشخصيات المكتوبة بعناية، يشتغل المخرج على جعل أدائها من قبل الممثلين، يحقّق عامل الجذب الأهم، فالأداء الذي قدّمه بطل الفيلم “ديف باتل”، لاقى استحساناً كبيراً عند الجمهور والنقاد على حدّ سواء، أيضاً الأداء البارع للنجمة السينمائية “نيكول كيدمان” أعطى للفيلم زخماً درامياً إضافياً، خصوصاً في أسلوب حياتها وزوجها وقصتهما الفرعية، بعد أن اتفقا على ألا ينجبا أطفالاً، طالما أنهما يستطيعان أن يتبنيا ما يمكنهما من أطفال العالم الثالث، لإنقاذهما من البؤس وتقديم حياة جيدة لهما، تتوفر فيها لهما كل المقومات الكفيلة بجعل مستقبلهما مضموناً، إلا أن أحدهما تركت فيه مرحلة الطفولة البائسة ما تركت من آثار قاسية، جعلته يحيا في أستراليا حياة التسكع والبطالة والإدمان، بينما يحقّق بطل قصتنا حلمه في الدراسة والعمل والحب، لكن الحنين يؤرّق أيامه ويجعله لا يفكر إلا في شيء واحد فقط لا غير، أن تقرّ عينه في حضن أمه التي تناديه بـ “بطلي الصغير”، بعد أن يجد قريته التي لم يكن يعرف اسمها بشكل صحيح في طفولته، وحدث أن عرف الاسم بالمصادفة، وهكذا استطاع إيجادها، كما تبيّن أيضاً أنه لم يكن يلفظ اسمه بطريقة صحيحة عندما كان يتمّ سؤاله عنه، فيقول “سارو” واسمه الحقيقي هو “شيرو” ويعني في اللغة الهندية “أسد”، ومن هنا جاء اسم الفيلم. ينتهي الفيلم بمشاهد حقيقية للقاء الذي جمع الشاب الذي تاه عن بيته مدة 25 عاماً بأمه وأخته التي كبُرت في غيابه.
“ليون” من الأفلام الدرامية الممتعة للعائلة، التي تقدّم حكاية ليست بالجديدة في نوعها، لكن في طريقة سردها السينمائي المدهش للأحداث، ضمن كوادر مشغول عليها بعناية بالغة وعلى مختلف الأصعدة.
تمّام علي بركات