واشنطن – بكين: ردع نووي أم نقدي؟
إبراهيم أحمد
الصين خامس دولة تنضمّ للنادي النووي في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق وبريطانيا وفرنسا، وهي رابع من امتلك القنبلة الهيدروجينية عالمياً بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا، وتعتبر من الدول السبع المعترف بامتلاكها أسلحة نووية، وهي من الدول الموقّعة على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية “ن. بي. بي. تي”، وتتعهد دائماً بعدم استخدام القوة النووية ضد أي دولة، وكذلك عدم استخدامها في أي مكان خالٍ من الأسلحة النووية. وتؤكد الحكومة الصينية أنها في حالات الحرب لن تكون البادئ باستخدام الأسلحة النووية ضد أي طرف كان، وأن ترسانتها النووية لهدف واحد فقط وهو ردع الآخرين عن المساس بها، ولذلك لا يمكن فهم الهوس الأمريكي بالخطر الصيني، الذي تجلّى في السنوات الأخيرة، من خلال مطالبات لم تتوقف بلجم التنين التقني المزعوم الذي تقوده شركة “هواوي”، وحجب الاستثمارات الصينية عن الأسواق الأمريكية، وأخيراً طلب ترامب أن تشترك بكين في مفاوضات نزع الأسلحة النووية بين واشنطن وموسكو.
تاريخ الأسلحة النووية الصينية
بدأ البرنامج النووي الصيني في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وتمّ تمريره بمساعدة نشطة من الاتحاد السوفييتي السابق. تمّ إرسال آلاف المتخصّصين السوفييت إلى الصين الذين ساعدوا في بناء المفاعلات، وإجراء اختبارات. وفي عام 1964 فتحت التجربة النووية أبواب النادي النووي أمام بكين، والتي أجرت اختبارات على الأسلحة النووية على أراضيها في موقع لوبنور. آخرها كان في عام 1996، وفق ما نشر في تقرير على وكالة سبوتنك الروسية. رسمياً، تعتبر بكين أن لديها 250-270 من الرؤوس الحربية. أيضاً يشمل الثالوث الصيني الطيران الاستراتيجي، إذ تستطيع سو- 30، التي اشترتها الصين من روسيا، حمل أسلحة نووية تكتيكية.
منذ اختبار أول قنبلة نووية، لم تكشف الصين أبداً حتى عن تقدير أولي لحجم ترسانتها النووية. لذا فإن الجدل الأخير على وسائل التواصل الاجتماعي الصينية حول عدد الرؤوس الحربية التي يجب على البلاد جمعها كان لافتاً للنظر بسبب خصوصيته. وقد بدأت الحملة يوم 8 أيار الماضي، باقتراح من محرّر صحيفة شعبية وطنية في بكين، بأن الصين يجب أن توسّع مخزونها حتى يتجاوز ألف رأس نووي، بما فيها صواريخ “دي إف 41″، وهو نوع جديد من الصواريخ العابرة للقارات القادرة على الضرب في أي مكان في أمريكا. ولا يروق للولايات المتحدة مثل هذا الكلام، وتحثّ الصين على الانضمام إلى أمريكا وروسيا في وضع حدود لحجم ترسانة كل منهما النووية.
لقد كان استعراض الصاروخ الجديد “دي إف 41” في عرض عسكري، أحد الأسباب التي زادت من حرص واشنطن على دفع بكين نحو المزيد من الوضوح. فهذا الطراز هو أول صاروخ بعيد المدى تكشف عنه بكين محمولاً على عربات متحركة، ما يجعل كشفه ومتابعته من قبل الأمريكيين أمراً عسيراً، مقارنة مع الأنواع الأخرى التي تطلق من منصات ثابتة. كما أن احتمال قدرة الصاروخ على حمل عدة رؤوس يزيد القلق الأمريكي الخاص بالأمن الاستراتيجي.
ناقوس الخطر
دقّ كبار مسؤولي البنتاغون ناقوس الخطر بشأن الطموحات النووية المستقبلية للصين، حتى لو كانت ترسانتها أصغر بكثير من ترسانة أمريكا. وقال الجنرال روبرت آشلي رئيس هيئة معلومات الدفاع في البنتاغون، في حديث في معهد هدسون في أيار 2019: “من خلال إعلانها عن مقذوفات إستراتيجية جديدة قادرة على حمل رؤوس نووية، سوف تفرض الصين قريباً نسختها الخاصة من الثالوث النووي، ما يدلّ على تصميم الصين على توسيع دور ومركزية قوتها النووية في تطلعاتها العسكرية”.
ويبدو أن هو شي جين، محرر صحيفة “غلوبال تايمز” الذي أطلق الحملة، أعطى مصداقية للتقديرات الغربية بأن الصين لديها بحدود 1000 رأس حربي، بينما تملك واشنطن نحو 4000 رأس حربي. لقد تكتمت الصين على برنامج تطوير أسلحتها النووية التي تزايد حجمها، وتشعبت تعقيداتها. وتهدف في بعض ما تهدف إليه، إلى ضمان قدرتها على النجاة من ضربة مفاجئة من الأسلحة الأمريكية فائقة الدقة. وقد انسحبت أمريكا العام الماضي من معاهدة مع روسيا تتعلق بحظر إطلاق الصواريخ الأرضية متوسطة المدى، بدعوى عدم مصداقية الجانب الروسي. وسيكون الخروج من معاهدة ستارت الجديدة قراراً آخر في سلسلة من صفقات الحدّ من انتشار الأسلحة النووية في ظل إدارة ترامب التي بدأت الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني قبل عامين تقريباً.
ستارت الجديدة
والآن تلقي الصين بظلالها على المعاهدة النووية الوحيدة التي لا تزال تربط أمريكا وروسيا وهي معاهدة “ستارت الجديدة” التي تمّ توقيعها في عام 2010، وتغطي الأسلحة الإستراتيجية بعيدة المدى، وتسمح لكل طرف بتفتيش منشآت الآخر، ويمكن تجديدها باتفاق الطرفين. لذلك، وخلال استئناف المفاوضات بين موسكو وواشنطن، مؤخراً، في فيينا، بشأن إمكانية تجديد المعاهدة، فقد اتضح أن الجانب الأمريكي يصرّ على انضمام الصين إليها جراء المخاوف آنفة الذكر. وهذا من شأنه أن يعيد إلى أذهان الصينيين فكرة “معاهدة غير متكافئة”، وهي عبارة تشير إلى المعاهدات البغيضة التي اضطرت البلاد للتوقيع عليها مع القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، لأن ترسانتها النووية لا يمكن أن تقارن بترسانتي واشنطن وموسكو.
حوافز لدفع بكين للتفاوض
إن أحد الحوافز التي تدفع الصين للموافقة على التفاوض هو مخاطر غيابها التي ستترتب عليها بداية جديدة في سباق التسلح النووي يمنح الأمريكيين فرصة تطوير ترسانتهم، وإخفائها كلياً عن أعين العالم. وهذا يضطر بكين للدخول في سباق تسلح معها، وتترتب عليه أعباء مالية باهظة على حساب تطوير اقتصادها، وخطط توسعها عالمياً. لكن المشكلة هي أن الصين، وروسيا، ليستا حريصتين على المحادثات الثلاثية. فقد جدّدت الصين رفضها فكرة الدخول في المفاوضات مرة أخرى. وقالت روسيا مؤخراً، إنه إذا أرادت أمريكا إشراك الصين في مفاوضات الأسلحة النووية، فعليها أن تدع روسيا خارجها. وكان الروس طالبوا في وقت سابق بأن تنضمّ كل من فرنسا وبريطانيا، (لديهما 485 رأساً نووياً)، إلى المفاوضات في حال انضمت الصين إليها.
ومؤخراً، فاجأت الصين العالم بأنها تستعدّ لردع الولايات المتّحدة الأمريكيّة على الصعيدين النووي والنقدي. ما الذي جرت به المقادير؟ هذا الخبر الذي يمكنه إرباك اقتصادات العالم حال تحققه، والمتعلق بتخفيض بكين لما تحوزه من سندات خزانة أمريكية تصل إلى 1.1 تريليون دولار، إلى مبلغ 800 مليار دولار، ثم يمكن للصين أن تتخلص مما تملكه لاحقاً دفعة واحدة في حال الاشتباك العسكري الكامل والمتوقع على سبيل المثال في منطقة مثل بحر الصين الجنوبي.
باختصار، السندات الأمريكية هي أوراق مالية قابلة للتحويل مثل الأسهم، تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية عن طريق مكتب الدين العام. وعادة ما تقبل دول العالم على استثمار فوائضها المالية فيها لأنها منخفضة المخاطر، ومضمونة من بنك الحكومة الأمريكية، ويمكن تحويلها إلى سيولة بشكل سريع عند الحاجة. والسؤال المطروح هو: لماذا خرجت صحيفة “غلوبال تايمز” الصينية بهذه الأخبار في هذا التوقيت؟.
وبالعودة قليلاً إلى الوراء، فإن هناك حالة عداء جذرية قائمة بين الصين والرئيس ترامب، الرجل الذي حمل على الصينيين من قبل أن يدخل البيت الأبيض، واتهاماته لهم معروفة، وتتمحور حول الإضرار المتعمّد بالاقتصاد الأمريكي. لم يكن مثيراً مؤخراً أن يجاهر ترامب بالقول إن الصينيين سوف يفعلون أي شيء من أجل قطع الطريق عليه للبقاء في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى. كما أن ترامب يزعم أن فيروس كوفيد -19 هو صيني، وأنه بطريقة أو بأخرى أدى إلى ضياع مكتسبات أمريكا الاقتصادية في العقود الأربعة الأخيرة.
ليس خافياً أو سراً أن هناك احتمالات كبيرة لتعثر أمريكي اقتصادي، فقد ارتفع الدين العام الأمريكي إلى نحو 22 تريليون دولار، أي إلى قرابة حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وهو مستوى غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، ويفوق بكثير خط الأمان المعترف به دولياً عند 60%. وعليه فإنه في حال أي تحول جذري في سوق سندات الخزانة الأمريكية، مثل بيع الصين احتياطياتها منها، فإن أسعار تلك السندات ستهوي، ما سيؤدي إلى ارتفاع العوائد التي تتحرك عكس اتجاه الأسعار، الأمر الذي سيتسبّب في زيادة تكاليف الاقتراض بالنسبة للحكومة الأمريكية، لترتفع تلقائياً أسعار الفائدة في شتى الأصول من سندات الشركات إلى الرهون العقارية لأصحاب المنازل، والمحصلة النهائية هي ضعف ثقة المستثمرين عالمياً في الدولار باعتباره عملة الاحتياطي الرئيسية في العالم.
ولعلّه من المثير أن التنين الصيني وهو يرسم ملامح ومعالم المواجهة المحتملة مع الأمريكي، لا يغفل الاهتمام بالردع النووي أيضاً. ففي أوائل أيلول الماضي كان البنتاغون يرفع تقريره السنوي إلى الكونغرس، وضمن الكثير الذي جاء فيه حديث الردع النووي الصيني، فللمرة الأولى تميط واشنطن اللثام عن عدد ما لدى الصين من ترسانة نووية تزيد قليلاً عن مائتي رأس نووية. أما اتحاد العلماء الأمريكيين فيرى أن الصين لديها نحو 320 رأساً نووياً، وسط توقعات برفع العدد إلى ما لا يقلّ عن المثلين في السنوات العشر المقبلة.
عطفاً على ذلك، يحذّر الاتحاد نفسه من أنه إذا نجحت الصين في تطوير قدراتها في صناعة الصواريخ النووية، فإنها حتماً ستقترب من القدرة على شنّ ضربات نووية وجوية وبحرية ضد الأعداء، وفي المقدمة منهم واشنطن.
الحاصل أن أمريكا مشغولة إلى أذنيها في إثارة الفتن والاضطرابات في العالم، فيما الصينيون على الأبواب، وفي هذا حديث الكارثة لا الحادثة على مستقبل الإمبراطورية الأمريكية أمس واليوم وغداً!.