الجاحظ أستاذ التوحيدي في “المختار من الصداقة والصديق”
اهتمّ الشعراء والناثرون في الأدب العربي القديم بموضوع الصداقة، وأُلّفت فيها كتب ورسائل، فاختار د. مهند سمير بيازيد مقتطفات من “المختار من الصداقة والصديق- لأبي حيان التوحيدي” ضمن سلسلة ثمرات العقول، الصادرة عن وزارة الثقافة –الهيئة العامة السورية للكتاب- وقد استُهل الكتيب بالتعريف بالتوحيدي، فهو أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي أديب وفيلسوف ومتصوف، والأرجح أنه وُلد في بغداد دار السلام عام 310 هجرية، ونهل من علوم المعرفة والثقافة من “الوراقة” التي اتخذها مهنة له، فاطّلع على كثير من الكتب المؤلفة والمترجمة وكوّن ثقافة واسعة الموارد، شملت مختلف المعارف من علوم اللغة والدين والمباحث الفلسفية، وتفقه بعلوم اللغة العربية ولاسيما النحو، ورغم تعلّمه من أساتذة عصره إلا أن أستاذه الذي أثّر في أدبه وفكره وأخلاقه ولغته وأسلوبه هو الجاحظ، وخصّه برسالة سمّاها “تقريظ الجاحظ”.
اتهامه بالزندقة
حقّق التوحيدي شهرة كبيرة، فقيل عنه إنه أفضل كتّاب النثر العربي على الإطلاق لأهمية بلاغته المشرقة وأسلوبه الفذّ، وكانت كتبه تأريخاً وتوثيقاً للمرحلة التي عاش فيها على جميع الصعد الفكرية والعلمية والأدبية والاجتماعية والأخلاقية، اتُهم بالزندقة لكن نفى كثيرون هذا الاتهام مثل طبقات الشافعية، ودافع عنه محمد كرد علي، ومن أشهر آثاره بين كتاب ورسالة “البصائر والذخائر والإمتاع والمؤانسة والمقابسات وأخلاق الوزيرين والإشارات الإلهية”، وتوفي عام 414 هجرية.
الصداقة المثالية
وُلع التوحيدي بموضوع الصداقة ورافقته رسالة الصداقة والصديق طيلة حياته، إذ بدأها في سن الشباب وانتهى من تأليفها في أواخر حياته، وتضمّنت بعض القضايا الفلسفية والأخلاقية التي شغلت المفكرين في ذلك العصر، كإيمان الناس بالطوالع والنجوم وربط أعمال الإنسان وتصرفاته الدنيوية بحركات الأفلاك وغيرها، فعكست رسالة الصداقة والصديق شخصيته الذاتية، إذ عبّر فيها عن نوازعه الوجدانية والعاطفية وبدت شخصيته الموضوعية في التعبير عن مشكلات عصره، وبأسلوبه الفني المنمّق جمع ما قيل في الصداقة والصديق منذ عصور الجاهلية إلى نهاية القرن الرابع الهجري.
يستشفّ القارئ من الرسالة نظرة التوحيدي المتشائم البائس الباحث عن الصداقة بإطارها المثالي، ويرى أن الفضائل تساعد على تكوين الصداقة وحمايتها من صدمات الحياة وتشابك مصالحها، بينما ثمّة عناصر سلبية تفسد الصداقة مثل الخداع والالتواء والاحتجاج والرياء والعتب والهجر والخلاف وغيرها مما أطلق عليها التوحيدي “الآفات النفسية”.
التناقضات
تضمّنت الروائع من النثر والشعر في صفات الصديق عناوين شائقة تقوم على الوزن وأسرار البلاغة والتساؤلات والتناقضات، منها تأديب وتأنيب، والعاقل والجاهل، وأثقل الأشياء وأضرّها، وصديق وعد، والودّ والشر وغيرها الكثير، وفي تساؤله عن “أكرم الناس عشرة” ” قيل لأعرابي: من أكرم الناس عشرة؟..
قال: من إن قَرِب مَنَح، وإن بَعُد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح”.
وما أورده التوحيدي مازال ماثلاً في حياتنا حتى الآن، فيصف صحبة الأخيار وصحبة الأشرار “صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرّت على النتن حملت نتناً، وإذا مرّت على الطيب حملت طيباً”.
وتعمّق بآداب جلوس الأصدقاء وحسن الإصغاء “قال أبو بكر: حق الجليس إذا دنا أن يُرحّب به، وإذا جلس أن يوسّع له، وإذا حدث أن يقبل عليه، وإذا عثر أن يقال، وإذا أنقص أن ينال، وإذا جهل أن يعلّم”.
نعيم الصداقة
والأجمل حينما وصف باختزال صفات الصديق “قيل لفيلسوف: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرتُ إليه في حاجة وجدته أشدّ مسارعة إلى قضائها مني إلى طلبها منه”.
ويبدو أن كل ما دوّنه كان تمهيداً لتعريف صفات الصديق. “قيل لأعرابي: كيف ينبغي أن يكون الصديق؟ قال: مثل الروح لصاحبه، يحييه بالتنفس، ويمتعه بالحياة، ويريه من الدنيا نضارتها، ويوصل إليه نعيمها ولذتها”. وأتبع هذا المعنى باختيار الأشخاص الحسن وفق مخالطة الناس، “قال رجل من قريش: خالطوا الناس مخالطة إن غبتم حنّوا إليكم، وإن متّم بكوا عليكم”.
التخلي عن الحقد
وكما هو شائع بأن الإنسان تُعرف خصاله من سلوكياته، استحضر التوحيدي ما قاله عديّ بن زيد: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه/ فإن القرين بالمقارن مقتدي
ومن الحكم البليغة التي اختارها ما أورده في قصر العمر مستحضراً ما قاله أفلاطون: عمر الدنيا أقصر من أن تطاع فيها الأحقاد.
وقد جمع التوحيدي بين التحذير والتنبّه والحكم في بعض الفقرات كما في العنوان الشائق المحرّض على التفكير “اتقاء ثلاثة” قال بعض السلف: “أحق الناس بأن يُتقى: العدو القوي والصديق المخادع والسلطان الغشوم”.
النكران والعتاب
ومن الأمور الحزينة التي تطرق إليها والتوحيدي نكران الصديق لصديقه وتبدّل وده والعتاب على البعد تاركاً الأيام أن تعلمه عن خسارته، كما في سوء الجزاء:
ستذكرني إذا جرّبت غيري/ وتعلم أنني لك كنتُ كنزا
بذلتُ لك الصفاء بكل ود/ وكنتُ كما هويت فصرت جبزا
وخصّ التوحيدي الودّ بدلالات عدة منها، الود والشر:
وما الود إلا عند من هو أهله/ وما الشر إلا عند من هو حامله
الأمان
ولخّص متغيرات الحياة بما أورده بأمور غير ثابتة يقال: “أمور ليست لها ثبات، منها: ظل الغمام، وخلّة الأشرار، وثناء الكذابين، والمال الكثير يرثه الأحمق، ومودة النساء”.
ويرى التوحيدي أن العيش الرغيد يتحقّق بسبعة أشياء قالها أكثم بن صيفي: الولد البار، والزوجة الصالحة، والأخ المساعد، والخادم العاقل، والعافية السابغة، والقوت الكافي والأمن الشامل.
ملده شويكاني