ما بين الشعر والنثر
أمين إسماعيل حربا
حين كانت العرب تفخر بشعرائها وتعلّق بعض أشعارهم على أستار الكعبة بعد كتابته بماء الذهب، ظهر نبي الإسلام (ص) بآيات الوحي التي كانت ولاتزال أبلغ ما قيل وما سيقال بالنثر العربي حتى أبد الدهر.
لقد كان نثراً لم تألفه العرب من قبل لأنه كان يمتلك الجزالة اللغوية، والموسيقا الداخلية، والصورة الشعرية بأبهى وأسمى أشكالها ومعانيها وانزياحاتها، فقالوا هو شعر من نوع جديد لأنه كان يحمل كل ما كان يحمله الشعر ماعدا أوزانه المعروفة على نظام البيت والقصيدة، فسارع الوحي على لسان نبيه (ص) بنفي ذلك نفياً قاطعاً بقوله: “وما علّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين” يس69. فصمتت قريش عن ادعاءاتها بعد طول جدال وأقرت بأن هذا النوع من النثر ليس شعراً عربياً رغم كل صفاته وما يحمل، مع أن “قريش” كانت من أشد المشككين والهادفين لإدانة الوحي وتصنيفه كشعر لأنه كان يشكّل خطراً جوهرياً ومصيرياً على وجودها ومصالحها آنذاك وبها من بها من الشعراء والبلغاء والفصحاء والمثقفين. ثم أشاروا وألمحوا بمحاولة أخرى لوصف الوحي أنه شعر بأن النبي (ص) أخذه أو استنبطه أو تعلّمه من ثقافة الشعوب القريبة، ثم ترجمه للعربية بصياغة جديدة، فسارع الوحي على لسان نبيه لنفي ذلك نفياً قاطعاً بقوله: “ولقد نعلم أنهم يقولون إنه يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين” النحل 103، وصمتت قريش وأقرت أن شعر الشعوب الأخرى هو ليس شعراً بالنسبة لهم مهما حمل من صفات الشعر، فبعد أن يترجم للعربية ويصاغ بها لا يعدو عن كونه نثراً لأنه ليس منظوماً على أوزانهم، ويفقد الكثير من خصائصه ومعانيه، ولم تعد قريش لهذا الأمر مرة أخرى.
وحتى لا يحتج على قولنا أحد فقد كان الحوار يتم ما بين النبي (ص) وأهل مكة، وهو حوار ثقافي أدبي فكري، وكان ينظر للحوار على أنه ما بين النبي كمثقف ومثقفي أهل مكة الذين كانوا رأس العروبة آنذاك، وكانوا بأوج قوتهم وسطوتهم، ولم يكونوا يعترفون بنبوته (ص)، ومن مصلحتهم إطالة الجدال إلى ما لا نهاية.
وقد اعترف أنسي الحاج، وهو أحد آباء ومؤسسي قصيدة النثر، في إحدى مقالاته بعد أن قدم اعتذاراً عما قام به من تنظيرات حولها استناداً إلى سوزان برنار قائلاً: “نحن معشر ديوك الحداثة أجهز أولادنا على الباقي بعدما فتحنا صندوق باندورا واندلقت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القش، أعرنا أنفسنا لنكون جنود الهدم وبيادق القدر، وقطعنا إشارات المرور التي كانت ممنوعة، وانتزعنا السدود، وانتشينا بما تراءى لنا انتصاراً”.
سوزان برنار هي ناقدة أدبية فرنسية ذات أصول يهودية رائدة مصطلح قصيدة النثر، وقد قدمت أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة باريس بعنوان: (قصيدة النثر من بودلير إلى يومنا هذا)، وبعد أن ترجمت للعربية أقسام من أطروحتها التي حوّلتها إلى كتاب، احتفلت مجلة شعر البيروتية بالأطروحة في وقتها ونشرت بعض أجزائها على صفحاتها، وما لبثت أن انتشرت كتابة قصيدة النثر العربية. وقد نسب إلى المبدع محمد الماغوط، وهو أحد كبار رواد النص النثري الحديث، حين سئل هل أنت شاعر؟ أجاب بكل بساطة ووضوح قائلاً: أنا مجرد كاتب، وهذه دلالة أن النثر الحديث مهما كان إبداعياً فهو لا ينتمي للشعر.
فإذا كان الوحي أكد أكثر من مرة أن النثر مهما حمل من صفات الشعر والشاعرية فلأنه غير موزون على أوزان الشعر، وله شكل البيت والقصيدة فهو ليس شعراً، وأقرت بذلك العرب، وأقر بذلك بعض كبار آباء ومؤسسي النص النثري الحديث، فمن بعدهم يكون حكماً بالأمر برأيكم؟ وهل يحق لبعض المستغربين الذين استمزجوا ثقافة الغرب بحكم أنه المنتصر والأقوى، ومن منطلق أن الأقوى يذيب ثقافة الأضعف، أن يدلوا بدلوهم ويفرضوه مهما كانت أسماؤهم؟.
لابد من الإشارة إلا أن انتشار مصطلح ما أو مفهوم ما بغفلة من التاريخ لأسباب يطول الحديث عنها لا يعني مطلقاً أنه الأصلح، فكم من الصرعات سادت ثم اندثرت كصرعة الخنافس والشارلستون، وهذا لا يعني مطلقاً أن النثر الأدبي الحديث ليس إبداعاً عند البعض، بل ربما يكون أبلغ وأكثر إبداعاً من معظم الأشعار، ومنه ما يسحر الألباب والأنفس.